سبل
السلام
شرح
بلوغ المرام
للصنعاني
كتاب
الطهارة
الكتاب
والطهارة في الأصل: مصدران أضيفا وجعلا اسماً لمسائل من مسائل الفقه، تشتمل على
مسائل خاصة.
وبدأ
بالطهارة اتباعاً لسنة المصنفين في ذلك، وتقديماً للأمور الدينية على غيرها،
واهتماماً بأهمها وهي الصلاة. ولما كانت الطهارة شرطاً من شروطها بدأ بها، وهي اسم
مصدر، أي: طهر تطهيراً وطهارة، مثل: كلم تكليماً وكلاماً.
وحقيقتها:
استعمال المطهرَيْن: أي الماء والتراب، أو أحدهما، على الصفة المشروعة في إزالة
النجس، والحدث؛ لأن الفقيه إنما يبحث عن أحوال أفعال المكلفين من الوجوب وغيره.
ثم
لما كان الماء هو المأمور بالتطهّر به أصالة قدمه فقال:
باب
المياه
الباب
لغة: ما يدخل ويخرج منه. قال تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا
دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ} {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ
وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا
وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا
وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. وهو هنا مجاز؛ شبه الدخول إلى
الخوض في مسائل مخصوصة بالدخول في الأماكن المحسوسة، ثم أثبت لها الباب.
والمياه:
جمع ماء، وأصله: موه ولذا ظهرت الهاء في جمعه، وهو جنس يقع على القليل والكثير،
إلا أنه جمع لاختلاف أنواعه باعتبار حكم الشرع، فإن فيه ما ينهى عنه وفيه ما يكره.
وباعتبار الخلاف أيضاً في بعض المياه كماء البحر، فإنه نقل الشارح الخلاف في
التطهّر به عن ابن عمر، وابن عمرو.
وفي
النهاية: أن في كون ماء البحر مطهّراً خلافاً لبعض أهل الصدر الأول، وكأنه لقدم
الخلاف فيه بدأ المصنف بحديث يفيد طهوريته، وهو حجة الجماهير.
عن
أبي هُرَيْرَة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم،
في البَحْرِ: "هُوَ الطّهُورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيْتَتُهُ" أخرجهُ
الأربعةُ، وابنُ أبي شَيْبَةَ، واللفظُ لَهُ، وصححهُ ابنُ خُزيمةَ، والترمذي.
(عن
أبي هريرة رضي الله عنه) الجار والمجرور متعلّق بمقدر كأنه قال: باب المياه أروي
فيه، أو أذكر، أو نحو ذلك حديثاً عن أبي هريرة. وهو الأول من أحاديث الباب.
وأبو
هريرة هو الصحابي الجليل الحافظ المكثر، واختلف في اسمه واسم أبيه على نحو من
ثلاثين قولاً. قال ابن عبد البر: الذي تسكن النفس إليه من الأقوال: أنه عبد الرحمن
بن صخر، وبه قال محمد بن إسحاق. وقال الحاكم أبو أحمد: ذكر لأبي هريرة في مسند بقي
بن مخلد خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً. وهو أكثر الصحابة حديثاً،
فليس لأحد من الصحابة هذا القدر، ولا ما يقاربه. قلت: كذا في الشرح. والذي رأيته
في الاستيعاب، لابن عبد البر بلفظ: إلا أن عبد الله أو عبد الرحمن هو الذي يسكن
إليه القلب في اسمه في الإسلام ثم قال فيه ـ أي الاستيعاب ـ: مات في المدينة سنة
تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة، ودفن بالبقيع. وقيل: مات بالعقيق، وصلى عليه
الوليد بن عقبة بن أبي سفيان، وكان يومئذ أميراً على المدينة، كما قاله ابن عبد
البر.
(قال:
قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في البحر) أي: في حكمه، والبحر: الماء
الكثير، أو المالح فقط كما في القاموس، وهذا اللفظ ليس من مقوله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم، بل مقوله: (هو الطهور) بفتح الطاء، هو المصدر واسم ما يتطهر به؛
أو: الطاهر المطهر كما في القاموس. وفي الشرع: يطلق على المطهر، وبالضم مصدر. وقال
سيبويه: إنه بالفتح لهما، ولم يذكره في القاموس بالضم (ماؤه) هو فاعل المصدر،
وضمير ماؤه يقتضي أنه أريد بالضمير في قوله: هو الطهور: البحر يعني مكانه، إذ لو
أريد به الماء لما احتيج إلى قوله: ماؤه، إذ يصير في معنى الماء طهور ماؤه،
(الحلُّ) هو مصدر حل الشيء ضد حرم، ولفظ الدارقطني الحلال (مَيْتَتُهُ) هو فاعله
أيضاً (أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة) هو أبو بكر. قال الذهبي في حقه: الحافظ
العديم النظير الثبت النحرير، عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، صاحب المسند والمصنف
وغير ذلك، وهو من شيوخ البخاري، ومسلم، وأبي داود، وابن ماجه (واللفظ له) أي: لفظ
الحديث السابق سرده لابن أبي شيبة، وغيره ممن ذكر أخرجوه بمعناه. (وصححه ابن
خزيمة) بضم الخاء المعجمة فزاي بعدها مثناة تحتية فتاء تأنيث. قال الذهبي: الحافظ
الكبير إمام الأئمة شيخ الإسلام، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، انتهت إليه
الإمامة والحفظ في عصره بخراسان (و) صححه (الترمذي) أيضاً فقال عقب سرده: هذا حديث
صحيح. هذا لفظ الترمذي، كما في مختصر السنن للحافظ المنذري.
وحقيقة
الصحيح عند المحدثين ما نقله عدل تام الضبط، عن مثله، متصل السند، غير معلّ، ولا
شاذ.
هذا،
وقد أخرج المصنف هذا الحديث في التلخيص من تسع طرق عن تسعة من الصحابة، ولم تخلُ
طريق منها عن مقال، إلا أنه قد جزم بصحته من سمعت، وصححه ابن عبد البر، وصححه ابن
منده، وابن المنذر، وأبو محمد البغوي.
قال
المصنف: وقد حكم بصحة جملة من الأحاديث لا تبلغ درجة هذا ولا تقاربه.
قال
الزرقاني في شرح الموطأ: وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، تلقته الأمة بالقبول،
وتداوله فقهاء الأمصار في سائر الأعصار في جميع الأقطار، ورواه الأئمة الكبار. ثم
عد من رواه، ومن صححه.
والحديث
وقع جواباً عن سؤال كما في الموطأ: "أن أبا هريرة رضي الله عنه قال:
"جاء رجل" وفي مسند أحمد: "من بني مدلج" وعند الطبراني
"اسمه عبد الله، إلى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقال: يا رسول
الله إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضّأنا به عطشنا، أفنتوضأ
به"؟
وفي
لفظ أبي داود: "بماء البحر" فقال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته".
فأفاد
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أن ماء البحر طاهر مطهر، لا يخرج عن الطهورية بحال،
إلا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغير أحد أوصافه، ولم يجب صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم بقوله: نعم، مع إفادتها الغرض، بل أجاب بهذا اللفظ ليقرن الحكم بعلّته،
وهي الطهورية المتناهية في بابها، وكأنّ السائل لما رأى ماء البحر خالف المياه
بملوحة طعمه، ونتن ريحه، توهم أنه غير مراد من قوله تعالى: {} أي بالماء المعلوم
إرادته من قوله: {} أو أنه لما عرف من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً
طَهُوراً} ظن اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم الحكم، وزاده
حكماً لم يسأل عنه، وهو حل ميتته.
قال
الرافعي: لما عرف صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم اشتباه الأمر على السائل في ماء
البحر، أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته.
وقد
يبتلى بها راكب البحر، فعقب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة. قال ابن العربي:
وذلك من محاسن الفتوى، أن يجاء في الجواب بأكثر مما سئل عنه، تتميماً للفائدة،
وإفادة لعلم غير المسؤول عنه. ويتأكد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحكم، كما هنا، لأن
من توقف في طهورية ماء البحر، فهو عن العلم بحل ميتته مع تقدم تحريم الميتة أشد
توقفاً. ثم المراد بميتته: ما مات فيه من دوابه: مما لا يعيش إلا فيه. لا ما مات
فيه مطلقاً، فإنه وإن صدق عليه لغة أنه ميتة بحر، فمعلوم أنه لا يراد إلا ما
ذكرنا. وظاهره حل ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخنزير، ويأتي الكلام في ذلك في
بابه إن شاء الله تعالى.
وعَنْ
أبي سعيد الخُدْرِي رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "إنَّ المَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ" أخرَجَهُ
الثلاثةُ، وصَححهُ أحمدُ.
(وعن
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه) اسمه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري الخدري.
بضم الخاء المعجمة ودال مهملة ساكنة نسبة إلى خدرة حي من الأنصار كما في القاموس.
قال الذهبي: كان من علماء الصحابة، وممن شهد بيعة الشجرة، وروى حديثاً كثيراً،
وأفتى مدة. عاش أبو سعيد ستاً وثمانين سنة، ومات في أول سنة أربع وسبعين، وحديثه
كثير وحدث عنه جماعة من الصحابة، وله في الصحيحين أربعة وثمانون حديثاً.
(قال:
قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إن الماء طهور لا ينجسه شيء. أخرجه
الثلاثة) هم أصحاب السنن، ما عدا ابن ماجه، كما عرفت (وصححه أحمد) قال الحافظ
المنذري في مختصر السنن: ــــ إنه تكلم فيه بعضهم، لكن قال: حكي عن الإمام أحمد
أنه قال: حديث بئر بضاعة صحيح. وقال الترمذي: هذا حديث حسن. وقد جود أبو أسامة هذا
الحديث، ولم يروَ حديث أبي سعيد في بئر بضاعة بأحسن مما روى أبو أسامة. وقد روي
هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد.
والحديث
له سبب وهو: "أنه قيل لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنتوضأ من بئر
بضاعة، وهي بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور"
الحديث، هكذا في سنن أبي داود، وفي لفظ فيه: "إن الماء" كما ساقه المصنف.
واعلم
أنه قد أطال هنا في الشرح المقال، واستوفى ما قيل في حكم المياه من الأقوال،
ولنقتصر في الخوض في المياه على قدر يجتمع به شمل الأحاديث، ويعرف به مأخذ الأقوال
ووجوه الاستدلال فنقول:
قد
وردت أحاديث يؤخذ منها أحكام المياه، فمنها: حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء".
وحديث:
"إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث".
وحديث:
"الأمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد".
وحديث:
"إذا استيقظ أحدكم فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً".
وحديث:
"لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه".
وحديث:
"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم" الحديث. وفيه الأمر بإراقة الماء الذي
ولغ فيه. وهي أحاديث ثابتة ستأتي جميعها في كلام المصنف.
إذا
عرفت هذا، فإنه اختلفت اراء العلماء رحمهم الله تعالى، في الماء إذا خالطته نجاسة،
ولم تغير أحد أوصافه:
فذهب
القاسم، ويحيى بن حمزة، وجماعة من الآل، ومالك، والظاهرية وأحمد في أحد قوليه،
وجماعة من أصحابه إلى: أنه طهور، قليلاً كان أو كثيراً، عملاً بحديث: "الماء
طهور" وإنما حكموا بعدم طهورية ما غيّرت النجاسة أحد أوصافه، للإجماع على
ذلك؛ كما يأتي الكلام عليه قريباً.
وذهب
الهادوية، والحنفية، والشافعية إلى قسمة الماء إلى قليل تضرّه النجاسة مطلقاً،
وكثير لا تضرّه، إلا إذا غيرت بعض أوصافه، ثم اختلفوا بعد ذلك في تحديد القليل
والكثير.
فذهب
الهادوية إلى تحديد القليل بأنه: ما ظن المستعمل للماء الواقعة فيه النجاسة
استعمالها باستعماله، وما عدا ذلك فهو الكثير.
وذهب
الحنفية إلى تحديد الكثير من الماء: بما إذا حرّك أحد طرفيه ادمي، لم تسر الحركة
إلى الطرف الاخر؛ وهذا رأي الإمام، وأما رأي صاحبيه، فعشرة في عشرة، وما عداه فهو
القليل.
وذهب
الشافعية إلى تحديد الكثير من الماء بما بلغ قلتين من قلال هجر وذلك نحو خمسمائة
رطل، عملاً بحديث القلتين، وما عداه فهو القليل.
ووجه
هذا الاختلاف تعارض الأحاديث التي أسلفناها: فإن حديث الاستيقاظ، وحديث الماء
الدائم يقضيان: أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك حديث الولوغ، والأمر
بإراقة ماء ولغ الكلب فيه. وعارضها حديث بول الأعرابي، والأمر بصب ذنوب من ماء
عليه؛ فإنه يقتضي أن قليل النجاسة لا ينجس قليل الماء. ومن المعلوم أنه قد طهر ذلك
الموضع الذي وقع عليه بول الأعرابي بذلك الذنوب، وكذلك قوله: "الماءُ طَهورٌ
لا ينجِّسُهُ شيء".
فقال
الأولون وهم القائلون: لا ينجسه شيء، إلا ما غير أحد أوصافه: يجمع بين الأحاديث
بالقول بأنه لا ينجسه شيء، كما دلّ له هذا اللفظ، ودلّ عليه حديث بول الأعرابي.
وأحاديث
الاستيقاظ، والماء الدائم، والولوغ ليست واردة لبيان حكم نجاسة الماء، بل الأمر
باجتنابها تعبدي، لا لأجل النجاسة، وإنما هو لمعنى لا نعرفه، كعدم معرفتنا لحكمة
أعداد الصلوات ونحوها.
وقيل:
بل النهي في هذه الأحاديث للكراهة فقط، وهي طاهرة مطهرة.
وجمع
الشافعية بين الأحاديث بأن حديث "لا ينجسه شيءٌ" محمول على ما بلغ
القلتين فما فوقهما وهو كثير، وحديث الاستيقاظ، وحديث الماء الدائم محمول على
القليل.
وعند
الهادوية: أن حديث الاستيقاظ محمول على الندب فلا يجب غسلهما له.
وقالت
الحنفية: المراد بلا ينجسه شيء: الكثير الذي سبق تحديده. وقد أعلّوا حديث القلتين
بالاضطراب، وكذلك أعله الإمام المهدي في البحر. وبعضهم تأوله، وبقية الأحاديث في
القليل، ولكنه ورد عليهم حديث بول الأعرابي، فإنه كما عرفت دل على أنه لا يضر قليل
النجاسة قليل الماء، فدفعته الشافعية: بالفرق بين ورود الماء على النجاسة، وورودها
عليه فقالوا: إذا وردت على الماء نجسته، كما في حديث الاستيقاظ، وإذا ورد عليها
الماء لا تضرّه، كما في خبر بول الأعرابي. وفيه بحث حققناه في حواشي شرح العمدة،
وحواشي ضوء النهار.
وحاصله:
أنهم حكموا: أنه إذا وردت النجاسة على الماء القليل نجسته، وإذا ورد عليها الماء
القليل لم ينجس، فجعلوا علة عدم تنجس الماء الورود على النجاسة، وليس كذلك، بل
التحقيق: أنه حين يرد الماء على النجاسة يرد عليها شيئاً فشيئاً حتى يفني عينها
وتذهب قبل فنائه، فلا يأتي اخر من الماء الوارد على النجاسة إلا وقد طهر المحل
الذي اتصلت به، أو بقي فيه جزء منها يفنى ويتلاشى، عند ملاقاة آخر جزء منها يرد
عليه الماء، كما تفنى النجاسة وتتلاشى إذا وردت على الماء الكثير بالإجماع، فلا
فرق بين هذا وبين الكثير في إفناء الكل للنجاسة، فإن الجزء الأخير الوارد على
النجاسة يحيل عينها لكثرته بالنسبة إلى ما بقي من النجاسة، فالعلّة في عدم تنجسه
بوروده عليها: هي كثرته بالنسبة إليها، لا الورود، فإنه لا يعقل التفرقة بين
الورودين: بأنّ أحدهما ينجسه دون الاخر.
وإذا
عرفت ما أسلفناه، وأنّ تحديد الكثير والقليل لم ينهض على أحدهما دليل. فأقرب
الأقاويل بالنظر إلى الدليل: قول القاسم بن إبراهيم، ومَنْ معه، وهو قول جماعة من
الصحابة، كما هو في البحر، وعليه عدة من أئمة الال المتأخرين، واختاره منهم الإمام
شرف الدين.
وقال
ابن دقيق العيد: إنه قول لأحمد، ونصره بعض المتأخرين من أتباعه، ورجّحه أيضاً من
أتباع الشافعي: القاضي أبو الحسن الروياني، صاحب بحر المذهب قاله في الإمام. وقال
ابن حزم في المحلى: إنه روي عن عائشة أم المؤمنين، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن
مسعود، وابن عباس،
والحسن
بن علي بن أبي طالب، وميمونة أم المؤمنين، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، والأسود
بن يزيد، وعبد الرحمن أخيه، وابن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وابن المسيب، ومجاهد،
وعكرمة، والقاسم بن محمد، والحسن البصري، وغير هؤلاء.
وعن
أبي أُمَامَةَ الباهليّ ــــ رضي الله عنه ــــ قال: قال رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الماءَ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ إلَّا ما غلبَ على
رِيحهِ وطَعْمِهِ ولَوْنِهِ" أخرجهُ ابنُ ماجهْ، وضعَّفَهُ أبو حاتم.
وللبيهقي:
"الماءُ طَهُورٌ إلَّا إنْ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، أو طَعْمُهُ، أوْ لَوْنُهُ
بِنَجَاسَةٍ تَحْدُثُ فيهِ".
(وعن
أبي أمامة) بضم الهمزة، واسمه صدي بمهملتين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة ومثناة
تحتية مشددة (الباهلي) بموحدة نسبة إلى باهلة، في القاموس: باهلة: قوم، واسم أبيه
عجلان. قال ابن عبد البر: لم يختلفوا في ذلك، يعني في اسمه واسم أبيه. سكن أبو
أمامة مصر، ثم انتقل عنها وسكن حمص، ومات بها سنة إحدى. وقيل: سنة ست وثمانين
وقيل: هو اخر من مات من الصحابة بالشام. كان من المكثرين في الرواية عنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم (رضي الله عنه قال:
قال
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إنَّ الماءَ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ
إلا ما غَلَبَ على ريحهِ وطعمهِ ولونِهِ) المراد: أحدها كما يفسره حديث البيهقي
(أخرجه ابن ماجه وضعفه أبو حاتم) قال الذهبي في حقه: أبو حاتم هو الرازي الإمام
الحافظ الكبير، محمد بن إدريس بن المنذر الحنظلي، أحد الأعلام؛ ولد سنة خمس وتسعين
ومائة، وأثنى عليه إلى أن قال: قال النسائي: ثقة. توفي أبو حاتم في شعبان سنة سبع
وسبعين ومائتين، وله اثنتان وثمانون سنة. وإنما ضعّف الحديث، لأنه من رواية رشدين
بن سعد بكسر الراء وسكون المعجمة، قال أبو يوسف: كان رشدين رجلاً صالحاً في دينه،
فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث، وهو متروك.
وحقيقة
الحديث الضعيف: هو ما اختل فيه أحد شروط الصحيح، والحسن، وله ستة أسباب معروفة،
سردها في الشرح.
[والبيهقي]
هو: الحافظ العلامة شيخ خراسان، أبو بكر أحمد بن الحسين، له التصانيف التي لم يسبق
إلى مثلها: كان زاهداً ورعاً تقياً، ارتحل إلى الحجاز والعراق. قال الذهبي: تاليفه
تقارب ألف جزء، وبيهق بموحدة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة وهاء مفتوحة فقاف: بلد قرب
نيسابور، أي رواه بلفظ: (الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه) عطف عليه
(بنجاسة) الباء سببية: أي بسبب نجاسة (تحدث فيه) قال المصنف: قال الدارقطني: ولا
يثبت هذا الحديث. وقال الشافعي: ما قلت من أنه إذا تغير طعم الماء، أو ريحه، أو
كونه كان نجساً، يروى عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم من وجه لا يثبت أهل
الحديث مثله. وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه، والمراد تضعيف رواية
الاستثناء، لا أصل الحديث، فإنه قد ثبت في حديث بئر بضاعة، ولكن هذه الزيادة قد
أجمع العلماء على القول بحكمها. قال ابن المنذر: قد أجمع العلماء: على أن الماء
القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت له طعماً، أو لوناً، أو ريحاً فهو نجس،
فالإجماع هو الدليل على نجاسة ما تغير أحد أوصافه، لا هذه الزيادة.
وعن
عبد الله بن عُمر رضي الله عنهمَا قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: "إذا كانَ الماءُ قُلّتين لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ" وفي لَفْظ:
"لم يَنْجُسْ" أخرجه الأربعة، وصحّحهُ ابن خزَيْمَةَ والحاكِمُ وابنُ
حِبّانَ.
(وعن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما) هو ابن عمر بن الخطاب أسلم عبد الله صغيراً بمكة،
وأول مشاهده الخندق وعمّر: وروى عنه خلائق، كان من أوعية العلم، وكانت وفاته بمكة
سنة ثلاث وسبعين، ودفن بها بذي طوى، في مقبرة المهاجرين.
(قال:
قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا كان المَاءُ قُلّتَيْن لم يَحْمل
الخَبَثَ) بفتح المعجمة الموحدة، (وفي لفظ لم يَنْجُس) هو بفتح الجيم وضمها، كما
في القاموس (أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة) تقدم ذكره في أوّل حديث.
(والحاكم)
هو الإمام الكبير إمام المحققين، أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري
المعروف بابن البيع، صاحب التصانيف. ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وطلب هذا
الشأن، ورحل إلى العراق، وهو ابن عشرين، وحجّ، ثم جال في خراسان وما وراء النهر،
وسمع من ألفي شيخ أو نحو ذلك، حدث عنه الدارقطني، وأبو يعلى الخليلي، والبيهقي،
وخلائق. وله التصانيف الفائقة مع التقوى والديانة. ألف المستدرك، وتاريخ نيسابور،
وغير ذلك. توفي في شهر صفر سنة خمس وأربعمائة.
(وابن
حبّان) بكسر الحاء المهملة وتشديد الموحدة. قال الذهبي: هو الحافظ العلامة، أبو
حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان البستي، صاحب التصانيف. سمع أمماً لا يحصون من
مصر إلى خراسان. حدّث عنه الحاكم، وغيره. وكان ابن حبان من فقهاء الدين وحفاظ
الاثار، عالماً بالطب والنجوم وفنون العلم. صنف المسند الصحيح، والتاريخ، وكتاب
الضعفاء. وفقّه الناس بسمرقند، قال الحاكم: كان ابن حبان من أوعية العلم والفقه
واللغة والوعظ، من عقلاء الرجال. توفي في شوال سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وهو في
عشر الثمانين.
وقد
سبقت الإشارة إلى أن هذا الحديث هو: دليل الشافعية في جعلهم الكثير ما بلغ قلتين،
وسبق اعتذار الهادوية والحنفية عن العمل به بالاضطراب في متنه. إذ في رواية:
"إذا بلغ ثلاث قلال" وفي رواية: "قلة"، وبجهالة قدر القلة،
وباحتمال معناه، فإن قوله: "لم يحمل الخبث" يحتمل أنه لا يقدر على حمله،
بل يضره الخبث، ويحتمل أنه يتلاشى فيه الخبث، وقد أجاب الشافعية عن هذا كله، وقد
بسطه في الشرح، إلا الأخير فلم يذكره، كأنه تركه لضعفه، لأن رواية "لم
ينجس" صريحة في عدم احتماله المعنى الأول.
وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا
يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" أخرجه مُسْلِمٌ.
وللبخاريِّ:
"لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدَّائِمِ الذي لا يَجْرِي، ثُمَّ
يَغْتَسِلُ فيه".
ولِمُسْلِمٍ:
"مِنْهُ".
ولأبي
داوُدَ: "ولا يَغْتَسِلْ فيهِ مِنَ الْجَنَابَةِ".
(وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا
يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ في الماءِ الدائم) وهو: الراكد الساكن، ويأتي وصفه بأنه
الذي لا يجري (وَهُوَ جُنُبٌ أخرجه) بهذا اللفظ (مسلم. وللبخاري) رواية بلفظ (لا
يبُولَنَّ أَحَدُكُمْ في
الماء
الدَّائم الذي لا يَجري ثُمَّ يَغْتَسَلُ) روي برفع اللام على أنه خبر لمبتدأ
محذوف: أي ثم هو يغتسل، وقد جوّز جزمه على عطفه على موضع يبولن، ونصبه بتقدير أن
على إلحاق ثم بالواو في ذلك، وإن أفاد أن النهي إنما هو عن الجمع بين البول
والاغتسال، دون إفراد أحدهما، مع أنه ينهى عن البول فيه مطلقاً، فإنه لا يخل بجواز
النصب؛ لأنه يستفاد من هذا النهي عن الجمع، ومن غيره النهي عن إفراد البول وإفراد
الاغتسال. هذا بناء على أن ثم قد صارت بمعنى الواو تفيد الجمع، وهذا قاله النووي
معترضاً به على ابن مالك؛ حيث جوز النصب، وأقره ابن دقيق العيد في غير شرح العمدة،
إلا أنه أجاب عن النووي بما أفاده قولنا: فإنه لا يخل بجواز النصب إلى اخره.
قلت:
والذي تقتضيه قواعد العربية أن النهي في الحديث إنما هو عن الجمع بين البول ثم
الاغتسال منه، سواء رفعت اللام أو نصبت؛ وذلك لأن ثم تفيد ما تفيده الواو العاطفة
في أنها للجمع، وإنما اختصت ثم بالترتيب، فالجميع واهمون فيما قرروه.
ولا
يستفاد النهي عن كل واحد على انفراده من رواية البخاري؛ لأنها إنما تفيد النهي عن
الجمع، ورواية مسلم تفيد النهي عن الاغتسال فقط إذا لم تقيد برواية البخاري. ثم
رواية أبي داود بلفظ: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه"
تفيد النهي عن كل واحد على انفراده (فيه. ولمسلم) في روايته (منه) بدلاً عن قوله
فيه، والأولى تفيد أنه لا يغتسل فيه بالانغماس مثلاً، والثانية تفيد أن لا يتناول
منه ويغتسل خارجه. (ولأبي داود) بلفظ: (ولا يغتسل فيه) عوضاً عن ثم يغتسل (من
الجنابة) عوضاً عن قوله: وهو جنب، وقوله هنا: "ولا يغتسل" دال على أن
النهي عن كل واحد من الأمرين على انفراده، كما هو أحد الاحتمالين الأولين في رواية
"ثم يغتسل منه". قال في الشرح: وهذا النهي في الماء الكثير للكراهة. وفي
الماء القليل للتحريم. قيل عليه: إنه يؤدي إلى استعمال لفظ النهي في حقيقته
ومجازه، فالأحسن أن
يكون
من عموم المجاز، والنهي مستعمل في عدم الفعل الشامل للتحريم، وكراهة التنزيه.
فأما
حكم الماء الراكد وتنجسه بالبول، أو منعه من التطهير بالاغتسال فيه للجنابة، فعند
القائلين: ــــ بأنه لا ينجس إلا ما تغير أحد أوصافه ــــ النهي عنه للتعبد وهو
طاهر في نفسه، وهذا عند المالكية فإنه يجوز التطهر به؛ لأن النهي عندهم للكراهة،
وعند الظاهرية: أنه للتحريم. وإن كان النهي تعبداً، لا لأجل التنجيس لكن الأصل في
النهي التحريم. وأما عند من فرق بين القليل والكثير فقالوا: إن كان الماء كثيراً
ــــ وكل على أصله في حده ــــ ولم يتغير أحد أوصافه، فهو الطاهر. والدليل على
طهوريته: تخصيص هذا العموم، إلا أنه قد يقال: إذا قلتم: النهي للكراهة في الكثير،
فلا تخصيص لعموم حديث الباب، وإن كان الماء قليلاً ــــ وكل في حده على أصله ــــ
فالنهي عنه للتحريم، إذ هو غير طاهر ولا مطهر، وهذا على أصلهم في كون النهي
للنجاسة.
وذكر
في الشرح الأقوال في البول في الماء وأنه لا يحرم في الكثير الجاري كما يقتضيه
مفهوم هذا الحديث، والأولى اجتنابه. أما القليل الجاري فقيل يكره، وقيل: يحرم وهو
الأولى. قلت: بل الأولى خلافه إذ الحديث في النهي عن البول فيما لا يجري، فلا يشمل
الجاري قليلاً كان أم كثيراً. نعم، لو قيل بالكراهة لكان قريباً. وإن كان كثيراً
راكداً فقيل: يكره مطلقاً، وقيل: إن كان قاصداً إلا إذا عرض وهو فيه فلا كرهة. قال
في الشرح: ولو قيل بالتحريم لكان أظهر وأوفق؛ لظاهر النهي، لأن فيه إفساداً له على
غيره ومضارة للمسلمين. وإن كان راكداً قليلاً فالصحيح: التحريم للحديث.
ثم
هل يلحق غير البول كالغائط به في تحريم ذلك في هذا الماء القليل؟ فالجمهور على أنه
يلحق به بالأولى. وعند أحمد بن حنبل: لا يلحق به غيره، بل يختص الحكم بالبول.
وقوله: "في الماء" صريح في النهي عن البول فيه، وأنه يجتنب إذا كان
كذلك. فإذا بال في إناء وصبه في الماء الدائم فالحكم واحد، وعن داود لا ينجسه ولا
يكون منهياً عنه إلا في الصورة الأولى لا غير.
وحكم
الوضوء في الماء الدائم الذي بال فيه من يريد الوضوء: حكم الغسل إذ الحكم واحد.
وقد ورد في رواية: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" ذكرها
في الشرح ولم ينسبها إلى أحد، وقد أخرجها عبد الرزاق، وأحمد، وابن أبي شيبة،
والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح،
وابن
حبان من حديث أبي هريرة مرفوعاً، وأخرجه الطحاوي، وابن حبان، والبيهقي بزيادة:
"أو يشرب".
وعن
رَجُلٍ صَحِبَ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: نَهَى رسولُ الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "أنْ تَغْتَسِلَ المَرْأةُ بفَضْلِ الرَّجلِ، أوِ
الرَّجُلُ بِفَضْلِ المرأةِ، ولْيَغْتَرِفَا جَميعاً" أخرجهُ أبو داودَ
والنّسائيُّ، وإسْنَادُهُ صحيحٌ.
(وعن
رجل صحب النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: نهى رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل) أي بالماء الذي يفضل عن غسل الرجل
(أو الرجل بفضل المرأة) مثله (وليغترفا) من الماء عند اغتسالهما منه (جميعاً أخرجه
أبو داود، والنسائي، وإسناده صحيح) إشارة إلى رد قول البيهقي حيث قال: إنه في معنى
المرسل، أو إلى قول ابن حزم حيث قال: إن أحد رواته ضعيف. أما الأول وهو كونه في
معنى المرسل؛ فلأن إبهام الصحابي لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول عند المحدثين.
وأما الثاني فلأنه أراد ابن حزم بالضعيف: داود بن عبد الله الأودي، وهو ثقة، وكأنه في
البحر اغتر بقول ابن حزم، فقال بعد ذكر الحديث: إن راويه ضعيف وأسنده إلى مجهول.
وقال المصنف في فتح الباري: إن رجاله ثقات ولم نقف له على علة، فلهذا قال هنا: وهو
صحيح، نعم هو معارض بما يأتي من قوله في الحديث الاتي:
وعن
ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم كانَ
يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها. أخرجه مسلمٌ.
ولأصحابِ
السُّنن: اغْتَسَل بَعْضُ أَزْواجِ النبيِّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في
جَفْنَةٍ، فَجَاءَ لِيغْتَسِلَ مِنْها، فَقَالَتْ إنِّي كُنْتُ جُنُباً فقالَ:
"إنَّ الماءَ لا يَجْنُبُ" وصححه الترمذي، وابنُ خُزَيْمَةَ.
(وعن
ابن عباس رضي الله عنهما) هو حيث أطلق: بحر الأمة وحبرها عبد الله بن العباس. ولد
قبل الهجرة بثلاث سنين، وشهرة إمامته في العلم ببركات الدعوة النبوية بالحكمة
والفقه في الدين والتأويل تغني عن التعريف به. كانت وفاته بالطائف سنة ثمان وستين
في اخر أيام ابن الزبير بعد أن كُفّ بصره (أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
كان يغتسل بفضل ميمونة. أخرجه مسلم) من رواية عمرو بن دينار بلفظ قال: وعلمي،
والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني. الحديث. وأعله قوم بهذا التردد. ولكنه
قد ثبت عند الشيخين بلفظ: "أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وميمونة
كانا يغتسلان من إناء واحد"، ولا يخفى أنه لا تعارض؛ لأنه يحتمل أنهما كانا
يغترفان معاً فلا تعارض.
نعم
المعارض قوله: (ولأصحاب السنن) أي من حديث ابن عباس، كما أخرجه البيهقي في السنن،
ونسبه إلى أبي داود: (اغتسل بعض أزواج النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم في جفنة
فجاء) أي النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (ليغتسل منها فقالت) له: (إني كنت
جنباً) أي وقد اغتسلت منها (فقال: إنَّ الماءَ لا يَجْنُبُ) في القاموس جنب أي
كفرح وجنب أي ككرم، فيجوز فتح النون وضمها هنا، هذا إن جعلته من الثلاثي، ويصح من
أجنب يجنب، وأما اجتنب فلم يأت بهذا المعنى وهو إصابة الجنابة (وصححه الترمذي.
وابن خزيمة).
ومعنى
الحديث قد ورد من طرق سردها في الشرح، وقد أفادت معارضة الحديث الماضي، وأنه يجوز
غسل الرجل بفضل المرأة، ويقاس عليه العكس لمساواته له، وفي الأمرين خلاف، والأظهر
جواز الأمرين، وأن النهي محمول على التنزيه.
[رح8]ــ
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"طُهُورُ إناءِ أحدِكُمْ إذا وَلَغَ فيه الكَلْبُ أن يَغْسِلَهُ سَبْعَ
مَرَّاتٍ، أُولاهُنَّ بالتُّرابِ" أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وفي لَفظٍ لَهُ:
"فَلْيُرِقْهُ".
وللترمذيِّ:
"أُخْراهُنَّ، أوْ أُوْلاهُنَّ بالتراب".
(وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: طهورَ)
قال في الشرح: الأظهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها لغتان (إناء أحدكم إذا وَلَغَ فيه
الكلب) في القاموس: ولغ الكلب في الإناء وفي الشراب يلغ (كيهب) ويالغ وولغ كورث
ووجل: شرب ما فيه
بأطراف
لسانه، أو أدخل لسانه فيه فحركه (أنْ يَغْسلَهُ) أي الإناء (سبعَ مَرَّات
أوُلاهُنَّ بالتراب أخرجه مسلم، وفي لفظ له فليرقه) أي الماء الذي ولغ فيه،
(وللترمذي أخراهن) أي السبع (أو أولاهن بالتراب).
دل
الحديث على أحكام:
أولها:
نجاسة فم الكلب من حيث الأمر بالغسل لما ولغ فيه، والإراقة للماء، وقوله: طهور
إناء أحدكم؛ فإنه لا غسل إلا من حدث أو نجس، وليس هنا حدث فتعين النجس، والإراقة
إضاعة ماله، فلو كان طاهراً لما أمر بإضاعته؛ إذ قد نهى عن إضاعة المال، وهو ظاهر
في نجاسة فمه، وألحق به سائر بدنه قياساً عليه، وذلك لأنه إذا ثبت نجاسة لعابه،
ولعابه جزء من فمه؛ إذ هو عرق فمه، ففمه نجس؛ إذ العرق جزء متحلب من البدن فكذلك
بقية بدنه، إلا أن من قال: إن الأمر بالغسل ليس لنجاسة الكلب قال: يحتمل أنَّ
النجاسة في فمه ولعابه؛ إذ هو محل استعماله للنجاسة بحسب الأغلب، وعلق الحكم
بالنظر إلى غالب أحواله من أكله النجاسات بفمه ومباشرته لها، فلا يدل على نجاسة
عينه، والقول بنجاسة عينه قول الجماهير، والخلاف لمالك وداود والزهري، وأدلة
الأولين ما سمعت.
وأدلة
غيرهم وهم القائلون: إن الأمر بالغسل للتعبد لا للنجاسة، أنه لو كان للنجاسة
لاكتفى بما دون السبع، إذ نجاسته لا تزيد على العذرة. وأجيب عنه: بأن أصل الحكم
الذي هو الأمر بالغسل معقول المعنى ممكن التعليل، أي بأنه للنجاسة. والأصل في
الأحكام التعليل فيحمل على الأغلب، والتعبد إنما هو في العدد فقط. كذا في الشرح
وهو مأخوذ من شرح العمدة وقد حققنا في حواشيه خلاف ما قرره من أغلبية تعليل
الأحكام وطوَّلنا هنالك الكلام.
الحكم
الثاني: أنه دل الحديث على وجوب سبع غسلات للإناء وهو واضح. ومن قال: لا تجب السبع
بل ولوغ الكلب كغيره من النجاسات والتسبيع ندب، استدل على ذلك: بأن راوي الحديث
وهو أبو هريرة قال: يغسل من ولوغه ثلاث مرات، كما أخرجه الطحاوي، والدارقطني.
وأجيب عن هذا: بأن العمل بما رواه عن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، لا بما
رآه، وأفتى به، وبأنه معارض بما روى عنه أيضاً: أنه أفتى بالغسل سبعاً وهي أرجح
سنداً، وترجح أيضاً بأنها توافق الرواية المرفوعة. وبما روى عنه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم أنه قال في الكلب يلغ في الإناء: "يُغسلُ ثلاثاً أو خمساً
أو سبعاً" قالوا: فالحديث دل على عدم تعيين السبع وأنه مخير، ولا تخيير في
معين، وأجيب عنه، بأنه حديث ضعيف لا تقوم به حجة.
الحكم
الثالث: وجوب التتريب للإناء لثبوته في الحديث، ثم الحديث يدل على تعيين التراب،
وأنه في الغسلة الأولى. ومن أوجبه قال: لا فرق بين أن يخلط الماء بالتراب حتى
يتكدر، أو يطرح الماء على التراب، أو يطرح التراب على الماء. وبعض من قال: بإيجاب
التسبيع قال: لا تجب غسلة التراب لعدم ثبوتها عنده، ورد: بأنها قد ثبتت في الرواية
الصحيحة بلا ريب، والزيادة من الثقة مقبولة.
وأورد
على رواية التراب بأنها قد اضطربت فيها الرواية، فروى أولاهن، أو أخراهن، أو
إحداهن، أو السابعة، أو الثامنة، والاضطراب قادح، فيجب الاطراح لها. وأجيب عنه:
بأنه لا يكون الاضطراب قادحاً إلا مع استواء الروايات، وليس ذلك هنا كذلك؛ فإن
رواية أولاهن أرجح لكثرة
رواتها،
وبإخراج الشيخين لها. وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض. وألفاظ الروايات التي
عورضت بها أولاهن لا تقاومها وبيان ذلك: أن رواية أخراهن منفردة لا توجد في شيء من
كتب الحديث مسندة. ورواية السابعة بالتراب اختلف فيها، فلا تقاوم رواية أولاهن
بالتراب، ورواية
إحداهن
بالحاء والدال المهملتين ليست في الأمهات، بل رواها البزار، فعلى صحتها، فهي مطلقة
يجب حملها على المقيدة، ورواية أولاهن أو أخراهن بالتخيير، إن كان ذلك من الراوي
فهو شك منه فيرجع إلى الترجيح، ورواية أولاهن أرجح، وإن كان كلامه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم فهو تخيير منه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويرجع إلى ترجيح
أولاهن لثبوتها فقط عن الشيخين كما عرفت.
وقوله:
"إناء أحدكم" الإضافة ملغاة هنا لأن حكم الطهارة والنجاسة لا يتوقف على
ملكه الإناء، وكذا قوله: (فلْيغْسلْهُ) لا يتوقف على أن يكون مالك الإناء هو
الغاسل.
وقوله:
وفي لفظ "فليرقه" هي من ألفاظ رواية مسلم، وهي أمر بإراقة الماء الذي
ولغ فيه الكلب أو الطعام، وهي من أقوى الأدلة على النجاسة، إذ المراق أعم من أن
يكون ماءاً أو طعاماً، فلو كان طاهراً لم يأمر بإراقته كما عرفت. إلا أنه نقل
المصنف في فتح الباري: عدم صحة هذه اللفظة عن الحفاظ. وقال ابن عبد البر: لم
ينقلها أحد من الحفاظ من أصحاب الأعمش. وقال ابن منده: لا تعرف عن النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم بوجه من الوجوه.
نعم.
أهمل المصنف ذكر الغسلة الثامنة، وقد ثبت عند مسلم "وعفروه الثامنة
بالتراب". قال ابن دقيق العيد: إنه قال بها الحسن البصري، ولم يقل بها غيره،
ولعل المراد بذلك من المتقدمين. والحديث قوي فيها، ومن لم يقل به احتاج إلى تأويله
بوجه فيه استكراه اهـ. قلت: والوجه أي المستكره في تأويله ذكره النووي فقال:
المراد: اغسلوه سبعاً واحدة منهن بالتراب مع الماء، فكأن التراب قائم مقام غسلة
فسميت ثامنة، ومثله قال الدميري في شرح المنهاج، وزاد: أنه أطلق الغسل على التعفير
مجازاً.
قلت:
لا يخفى أن إهمال المصنف لذكرها وتأويل من قال بإخراجها من الحقيقة إلى المجاز كل
ذلك محاماة عن المذهب. والحق مع الحسن البصري.
هذا،
وإن الأمر بقتل الكلاب ثم النهي عنه وذكر ما يباح اتخاذه منها يأتي الكلام عليه في
باب الصيد إن شاء الله تعالى.
وعن
أبي قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قَالَ ــــ في الهِرَّةِ ــــ: "إنّها ليْسَتْ بِنَجَسٍ، إنّمَا هي
مِنْ الطَّوَّافين علَيْكُمْ" أخرجه الأربعة، وصحّحهُ الترمذي وابنُ
خُزَيْمَةَ.
(وعن
أبي قتادة رضي الله عنه) بفتح القاف فمثناة فوقية بعد الألف دال مهملة اسمه في
أكثر الأقوال الحارث بن ربعي بكسر الراء فموحدة ساكنة فمهملة مكسورة ومثناة تحتية
مشددة الأنصاري، فارس رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم. شهد أحداً وما
بعدها، وكانت وفاته سنة
أربع
وخمسين بالمدينة، وقيل مات بالكوفة في خلافة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وشهد
معه حروبه كلها (أن رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال في الهرة).
والحديث
له سبب، وهو: أن أبا قتادة سكب له وضوءاً فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء
حتى شربت، فقيل له في ذلك. فقال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
(إنها ليست بنَجَس) أي فلا ينجس ما لامَسَتْهُ إنما هي من الطُّوَّافينَ) جمع طواف
(عليكُمْ) قال ابن الأثير: الطائف الخادم الذي يخدمك برفق وعناية، والطواف فعال
منه، شبهها بالخادم الذي يطوف على مولاه ويدور حوله أخذاً من قوله تعالى:
{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ
مِّن قَبْلِ صَـلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ
وَمِن بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى
بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
وفي رواية مالك وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم. زيادة لفظ: "والطوافات"
جمع الأول مذكراً سالماً نظراً إلى ذكور الهر. والثاني مؤنثاً سالماً نظراً إلى
إناثها. فإن قلت: قد فات في جمع المذكر السالم شرط كونه يعقل وهو شرط لجمعه علماً
وصفة. قلت: لما نزل منزلة من يعقل بوصفه بصفته وهو الخادم أجراه مجراه في جمعه صفة.
وفي
التعليل إشارة إلى أنه تعالى لما جعلها بمنزلة الخادم في كثرة اتصالها بأهل المنزل
وملابستها لهم، ولما في منزلهم، خفف الله تعالى على عباده بجعلها غير نجس رفعاً
للحرج (أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة) وصححه أيضاً البخاري والعقيلي
والدارقطني.
والحديث
دليل على طهارة الهرة وسؤرها، وإن باشرت نجساً، وأنه لا تقييد لطهارة فمها بزمان،
وقيل: لا يطهر فمها إلا بمضي زمان من ليلة أو يوم أو ساعة، أو شربها الماء، أو
غيبتها حتى يحصل ظن بذلك، أو بزوال عين النجاسة من فمها، وهذا الأخير أوضح
الأقوال؛ لأنه مع بقاء
عين
النجاسة في فمها فالحكم بالنجاسة لتلك العين لا لفمها، فإن زالت العين فقد حكم
الشارع بأنها ليست بنجس.
وعَنْ
أنَسِ بن مالك رضي الله عنه، قال: جاء أعْرَابِيٌّ فَبَالَ في طَائِفَةِ
المَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم، فَلَمَّا قضى بَوْلَهُ أمرَ النبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
بذَنُوبٍ مَنْ ماءٍ، فَأُهْرِيقَ عليْهِ مُتّفَقٌ علَيْهِ.
(وعن
أنس بن مالك رضي الله عنه) هو أبو حمزة بالحاء المهملة والزاي الأنصاري النّجاري
الخزرجي. خدم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم منذ قدم المدينة إلى وفاته صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وقدم صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المدينة وهو ابن عشر
سنين، أو ثمان،
أو
تسع. أقوال. سكن البصرة من خلافة عمر ليفقه الناس وطال عمره إلى مائة وثلاث وستين،
وقيل: أقل من ذلك. قال ابن عبد البر: أصح ما قيل تسع وتسعون سنة. وهو آخر من مات بالبصرة
من الصحابة سنة إحدى أو اثنتين، أو ثلاث وتسعين.
(قال:
جاء أعرابي) بفتح الهمزة نسبة إلى الأعراب وهم: سكان البادية سواء أكانوا عرباً أو
عجماً. وقد ورد تسميته: أنه ذو الخويصرة اليماني وكان رجلاً جافياً (فبال في طائفة
المسجد) أي في ناحيته، والطائفة: القطعة من الشيء (فزجره الناس) بالزاي فجيم فراء
أي نهروه، وفي لفظ: "فقام إليه الناس ليقعوا به"، وفي أخرى: "فقال
أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: مه، مه"، (فنهاهم رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) بقوله لهم: "دعوه"، وفي لفظ: "لا
تزْرُمُوه" (فلما قضى بوله أمر النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بذنوب) بفتح
الذال المعجمة فنون آخره موحدة وهي الدلو الملان ماء، وقيل: العظيمة (من ماء)
تأكيد، وإلا فقد أفاده لفظ الذنوب، فهو من باب كتبت بيدي، وفي رواية:
"سجلا" بفتح السين المهملة وسكون الجيم، وهو بمعنى الذنوب (فأهريق عليه)
أصله: فأريق عليه، ثم أبدلت الهاء من الهمزة فصار فهريق عليه، وهو رواية، ثم زيدت
همزة أخرى بعد إبدال الأولى فقيل: فأهريق (متفق عليه) عند الشيخين كما عرفت.
والحديث
فيه دلالة: على نجاسة بول الآدمي، وهو إجماع، وعلى أن الأرض إذا تنجست طهرت بالماء
كسائر المتنجسات، وهل يجزىء في طهارتها غير الماء؟ قيل: تطهرها الشمس والريح؛ فإن
تأثيرهما في إزالة النجاسة أعظم إزالة من الماء، ولحديث: "زكاةُ الأرض
يُبْسُهَا"، ذكره ابن أبي شيبة. وأجيب: بأنه ذكره موقوفاً، وليس من كلامه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كما ذكر عبد الرزاق: حديث أبي قلابة موقوفاً عليه
بلفظ: "جُفوفُ الأرض طَهُورُها" فلا تقوم بهما حجة.
والحديث
ظاهر في أن صب الماء يطهر الأرض رخوة كانت أو صلبة، وقيل: لا بد من غسل الصلبة
كغيرها من المتنجسات، وأرض مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، كانت رخوة، فكفى
فيها الصب.
وكذلك
الحديث ظاهر في أنه لا تتوقف الطهارة على نضوب الماء؛ لأنه صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم لم يشترط في الصب على بول الأعرابي شيئاً، وهو الذي اختاره المهدي في
البحر، وفي أنه لا يشترط حفرها وإلقاء التراب، وقيل: إذا كانت صلبة فلا بد من
حفرها وإلقاء التراب؛ لأن الماء لم يعم أعلاها وأسفلها، ولأنه ورد في بعض طرق
الحديث: أنه قال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "خذوا ما بال عليه من التُّراب
وألقُوهُ وأهْرِيقوا على مكانه ماء". قال المصنف في التلخيص: له إسنادان
موصولان. أحدهما عن ابن مسعود، والاخر عن واثلة بن الأسقع، وفيهما مقال: ولو ثبتت
هذه الزيادة لبطل قول من قال: إن أرض مسجده صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم رخوة،
فإنه يقول: لا يحفر ويلقى التراب إلا من الأرض الصلبة.
وفي
الحديث فوائد:
منها:
احترام المساجد؛ فإنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم لما فرغ الأعرابي من بوله دعاه
ثم قال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البَوْل ولا القَذر إنما هي لذكْر
الله عزَّ وجلَّ وقراءة القران". ولأن الصحابة لما تبادروا إلى الإنكار أقرهم
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وإنما أمرهم بالرفق، كما في رواية الجماعة للحديث
إلا مسلماً أنه قال: "إنما بُعثْتُم ميسرين ولم تُبْعَثوا مُعَسّرين".
ولو كان الإنكار غير جائز لقال إنه لم يأت الأعرابي ما يوجب نهيكم له.
ومنها:
الرفق بالجاهل وعدم التعنيف، ومنها حسن خلقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ولطفه
بالمتعلم، ومنها أن الإبعاد عند قضاء الحاجة إنما هو لمن يريد الغائط لا البول؛
فإنه كان عُرْفُ العرب عدم ذلك وأقره الشارع، وقد بال صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
وجعل رجلاً عند عقبه يستره، ومنها دفع أعظم المضرتين بأخفهما؛ لأنه لو قطع عليه
بوله لأضر به، وكان يحصل من تقويمه من محله، مع ما قد حصل من تنجيس المسجد، تنجيس
بدنه وثيابه ومواضع من المسجد غير الذي قد وقع فيه البول أولاً.
[رح11]ـــ
وعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهُمَا قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم:
"أُحِلّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ. فأمّا المَيْتَتَانِ: فالجَرَادُ
والحُوتُ، وأمّا الدَّمَانِ: فالكَبِدُ والطحَالُ" أخرجه أحمد، وابنُ ماجَهْ،
وفيه ضعف.
(وعن
ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أحلّتْ
لَنا مَيْتَتَان) أي بعد تحريمهما الذي دلت عليه الآيات (ودمان) كذلك (فأمّا
المَيْتَتان فالجرادُ) أي ميتة (والحوتُ) أي ميتة (وأما الدّمان. فالكبدُ
والطِّحالُ) بزنة كتاب (أخرجه
أحمد
وابن ماجه وفيه ضعف) لأنه رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر. قال
أحمد: حديثه منكر، وصح أنه موقوف كما قال أبو زرعة وأبو حاتم، وإذا ثبت أنه موقوف
فله حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا كذا وحرم علينا كذا مثل قوله: أمرنا
ونهينا، فيتم به الاحتجاج. ويدل على حل ميتة الجراد على أي حال وجدت، فلا يعتبر في
الجراد شيء سواء مات حتف أنفه أو بسبب.
والحديث
حجة على من اشترط موتها بسبب عادي، أو بقطع رأسها، وإلا حرمت. وكذلك يدل على حل
ميتة الحوت على أي صفة وجد، طافياً كان أو غيره لهذا الحديث، وحديث "الحلُّ
مَيْتَتُهُ". وقيل: لا يحل منه إلا ما كان موته بسبب ادمي، أو جزر الماء، أو
قذفه، أو نضوبه، ولا يحل الطافي لحديث: "ما ألقاه البحرُ أو جزَرَ عَنْهُ
فكُلُوا. وما مات فيه فطَفَا فلا تأكُلُوهُ" أخرجه أحمد وأبو داود من حديث
جابر، وهو خاص فيخص به عموم الحديثين. وأجيب عنه: بأنه حديث ضعيف باتفاق أئمة
الحديث.
Tidak ada komentar:
Posting Komentar