عن
المُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ رضي الله عنه قالَ: كُنْتُ مَع النّبيِّ صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم، فَتَوَضَّأَ، فَأَهْوَيْتُ لأنْزِعَ خُفّيْهِ، فَقَالَ:
"دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" فمَسَحَ
عَلَيْهِمَا، متفقٌ عليه.وللأربعة عنه إلاّ النسائي: أن النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم مسح أعلى الخفَّ وأسفلهُ. وفي إسناده ضعفٌ.
(عن
المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي:
في سفر، كما صرح به البخاري. وعند مالك وأبي داود تعيين السفر: أنه في غزوة تبوك،
وتعيين الصلاة: أنها صلاة الفجر (فتوضأ) أي أخذ في الوضوء، كما صرحت به الأحاديث،
ففي لفظ: "تمضمض واستنشق ثلاث مرات" وفي أخرى: فمسح برأسه، فالمراد
بقوله: توضأ أخذ فيه، لا أنه استكمله، كما هو ظاهر اللفظ (فأهويت) أي مددت يدي، أو
قصدت الهوى من القيام إلى القعود (لأنزع خفيه) كأنه لم يكن قد علم برخصة المسح، أو
علمها وظن أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سيفعل الأفضل، بناء على أن الغسل أفضل،
ويأتي فيه الخلاف، أو جوز أنه لم يحصل شرط المسح، وهذا الأخير أقرب لقوله: (فقال: دعهما)
أي الخفين (فإني أدخلتُهما طاهرَتين) حال من القدمين، كما تبينه رواية أبي داود:
"فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان" (فمسح عليهما. متفق عليه) بين
الشيخين. ولفظه هنا للبخاري. وذكر البزار: أنه روى عن المغيرة من ستين طريقاً،
وذكر منها ابن منده: خمسة وأربعين طريقاً.
والحديث
دليل على جواز المسح على الخفين في السفر، لأن هذا الحديث ظاهر فيه كما عرفت. وأما
في الحضر، فيأتي الكلام عليه في الحديث الثالث.
وقد
اختلف العلماء في جواز ذلك، فالأكثر على جوازه سفراً؛ لهذا الحديث وحضراً لغيره من
الأحاديث. قال أحمد بن حنبل: فيه أربعون حديثاً عن الصحابة مرفوعة. وقال ابن أبي
حاتم: فيه عن أحد وأربعين صحابياً، وقال ابن عبد البر في الاستذكار: روى عن النبي
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم المسح على الخفين نحو من أربعين من الصحابة.
ونقل
ابن المنذر عن الحسن البصري قال: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه كان يمسح على الخفين. وذكر أبو القاسم بن منده: أسماء من
رواه من تذكرته فبلغوا ثمانين صحابياً. والقول بالمسح: قول أمير المؤمنين علي عليه
السلام، وسعد بن أبي وقاص، وبلال، وحذيفة، وبريدة، وخزيمة بن ثابت، وسلمان، وجرير
البجلي، وغيرهم.
قال
ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين بين الصحابة اختلاف؛ لأن كل من روى عنه
إنكاره، فقد روى عنه إثباته.
وقال
ابن عبد البر: لا أعلم أنه روى عن أحد من السلف إنكاره، إلا عن مالك، مع أن
الرواية الصحيحة عنه مصرحة بإثباته.
قال
المصنف: قد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح متواتر، وقال به أبو حنيفة، والشافعي،
وغيرهما مستدلين بما سمعت.
وروى
عن الهادوية والإمامية والخوارج: القول بعدم جوازه، واستدلوا بقوله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن
كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ
أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً
طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ،قالوا: فعينت الآية مباشرة
الرجلين بالماء، واستدلوا أيضاً: بما سلف في باب الوضوء من أحاديث التعليم، وكلها
عينت غسل الرجلين. قالوا: والأحاديث التي ذكرتم في المسح منسوخة باية المائدة؛
والدليل على النسخ قول علي عليه السلام: سبق الكتاب الخفين. وقول[اث] ابن
عباس[/اث]: ما مسح رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعد المائدة.
وأجيب:
أولاً: بأن اية الوضوء نزلت في غزوة المريسيع، ومسحه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
في غزوة تبوك، كما عرفت، فكيف ينسخ المتقدم المتأخر.
وثانياً:
بأنه لو سلم تأخر اية المائدة، فلا منافاة بين المسح والاية؛ لأن قوله تعالى:
"وأرجلكم". مطلق، وقيدته أحاديث المسح على الخف، أو عام وخصصته تلك
الأحاديث.
وأما
ما روي عن علي عليه السلام، فهو حديث منقطع، وكذا ما روي عن ابن عباس، مع أنه
يخالف ما ثبت عنهما من القول بالمسح.
وقد
عارض حديثهما ما هو أصح منهما، وهو حديث جرير البجلي؛ فإنه لما روى: أنه رأى رسول
الله صلى الله عليه واله وسلم يمسح على خفيه، قيل له: هل كان ذلك قبل المائدة أو
بعدها؟ قال: وهل أسلمت إلا بعد المائدة؟ وهو حديث صحيح.
وأما
أحاديث التعليم، فليس فيها ما ينافي جواز المسح على الخفين: فإنها كلها فيمن ليس
عليه خفان. فأي دلالة على نفي ذلك، على أنه قد يقال: قد ثبت في اية المائدة
القراءة بالجر لأرجلكم عطفاً على الممسوح وهو الرأس، فيحمل على مسح الخفين، كما
بينته السنة، ويتم ثبوت المسح بالسنة والكتاب، وهو أحسن الوجوه التي توجه به قراءة
الجر.
إذا
عرفت هذا فللمسح عند القائلين به شرطان: الأول: ما أشار إليه الحديث، وهو لبس
الخفين مع كمال طهارة القدمين؛ وذلك بأن يلبسهما وهو على طهارة تامة، بأن يتوضأ
حتى يكمل وضوءه ثم يلبسهما، فإذا أحدث بعد ذلك حدثاً أصغر، جاز المسح عليهما، بناء
على أنه أريد بطاهرتين الطهارة الكاملة، وقد قيل: بل يحتمل أنهما طاهرتان عن
النجاسة، يروى عن داود، ويأتي من الأحاديث ما يقوي القول الأول.
والثاني
مستفاد من مسمى الخف، فإن المراد به الكامل؛ لأنه المتبادر عند الإطلاق، وذلك بأن
يكون ساتراً قوياً مانعاً نفوذ الماء غير مخرق، فلا يمسح على ما لا يستر العقبين، ولا
على مخرق يبدو منه محل الفرض، ولا على منسوج؛ إذ لا يمنع نفوذ الماء، ولا مغصوب
لوجوب نزعه.
هذا
وحديث المغيرة لم يبين كيفية المسح، ولا كميته، ولا محله، ولكن الذي أفاده قول
المصنف.
وللأربعة
عَنْهُ إلا النّسائي: أنَّ النبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسَحَ أعْلى
الْخُفِّ وأسْفَلَهُ. وفي إسناده ضَعْفٌ.
بيّن
أن محل المسح أعلى الخف وأسفله، ويأتي من ذهب إليه، ولكنه قد أشار إلى ضعفه، وبيّن
وجه ضعفه في التلخيص، وأن أئمة الحديث ضعفوه بكاتب المغيرة هذا.
وكذلك
بين محل المسح وعارض حديث المغيرة هذا.
وعن
عليٍّ رضي الله عنه أنّهُ قال: لَوْ كان الدِّينُ بالرأي لكان أسْفَلُ الْخُفِّ
أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاهُ، وقَدَ رَأَيْتُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم يَمْسَحُ على ظاهِرِ خُفّيْهِ، أخرجه أبو داود بإسنادٍ حَسَنٍ.
قوله:
(وعن علي عليه السلام، أنه قال: ــــ لو كانَ الدِّين بالرأي) أي بالقياس وملاحظة
المعاني (لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه) أي ما تحت القدمين أولى بالمسح من
الذي هو على أعلاهما؛ لأنه الذي يباشر المشي، ويقع على ما ينبغي إزالته، بخلاف
أعلاه، وهو ما على ظهر القدم (وقد رأيت رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
يَمْسَحُ على ظاهرِ خفيه، أخرجه أبو داود بإسناد حسن) وقال المصنف في التلخيص: إنه
حديث صحيح.
والحديث
فيه إبانة لمحل المسح على الخفين، وأنه ظاهرهما، لا غير، ولا يمسح أسفلهما.
وللعلماء
في ذلك قولان: أحدهما أن يغمس يديه في الماء، ثم يضع باطن كفه اليسرى تحت عقب
الخف، وكفه اليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمر اليمنى إلى ساقه، واليسرى إلى أطراف
أصابعه. وهذا للشافعي. واستدل لهذه الكيفية بما ورد في حديث المغيرة: "أنه
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح على خفيه، ووضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده
اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، كأني أنظر أصابعه على
الخفين" رواه البيهقي، وهو منقطع، على أنه لا يفي بتلك الصفة.
وثانيهما:
مسح أعلى الخف دون أسفله، وهي التي أفادها حديث علي عليه السلام هذا.
وأما
القدر المجزىء من ذلك: فقيل: لا يجزىء إلا قدر ثلاث أصابع، وقيل: ولو بأصبع، وقيل:
لا يجزىء إلا إذا مسح أكثره، وحديث علي، وحديث المغيرة المذكوران في الأصل ليس
فيهما تعرض لذلك. نعم قد روى عن علي عليه السلام: أنه رأى رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم يمسح على ظهر الخف خطوطاً بالأصابع. قال النووي: إنه حديث ضعيف.
وروى عن جابر: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم أرى بعض من علمه المسح، أن
يمسح بيده من مقدم الخفين إلى أصل الساق مرة، وفرج بين أصابعه". قال المصنف:
إسناده ضعيف جداً. فعرفت أنه لم يرد في الكيفية، ولا الكمية حديث يعتمد عليه إلا
حديث علي في بيان المسح. والظاهر أنه إذا فعل المكلف ما يسمى مسحاً على الخف لغة
أجزأه. وأما مقدار زمان جواز المسح فقد أفاده الحديث.
وعن
صَفْوانَ بن عَسّالٍ قالَ: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم يأمُرُنا إذا
كنّا سَفْراً "أنْ لا نَنْزَعَ خِفَافَنَا ثَلاَثَةَ أيّامٍ ولَيَالِيَهُنَّ،
إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، ولَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ" أخرجه
النسائيُّ والترمذيُّ، واللفْظُ لَهُ، وابنُ خُزيمةَ وصححاهُ.
(وعن
صفوان) بفتح الصاد المهملة وسكون الفاء (بن عسال) بفتح المهملة وتشديد السين
المهملة وباللام المرادي سكن الكوفة (قال: كان النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
يأمُرُنا إذا كنّا سَفْراً) جمع سافر كتجر جمع تاجر (ألا ننزَع خفافَنا ثلاثةَ
أيام ولياليهن إلا من جنابة) أي فننزعها ولو قبل مرور الثلاث (ولكن) لا ننزعهن (من
غائط وبول ونوم) أي لأجل هذه الأحداث إلا إذا مرت المدة المقدرة (أخرجه النسائي،
والترمذي، واللفظ له، وابن خزيمة، وصححاه) أي الترمذي، وابن خزيمة، ورواه الشافعي،
وابن ماجه، وابن حبان، والدارقطني، والبيهقي، وقال الترمذي عن البخاري: إنه حديث
حسن. بل قال البخاري: ليس في التوقيت شيء أصح من حديث صفوان بن عسال المرادي،
وصححه الترمذي، والخطابي.
والحديث
دليل على توقيت إباحة المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وفيه دلالة
على اختصاصه بالوضوء دون الغسل وهو مجمع عليه. وظاهر قوله: "يأمرنا"
الوجوب، ولكن الإجماع صرفه عن ظاهره فبقي للإباحة والندب.
وقد
اختلف العلماء: هل الأفضل المسح على الخفين، أو خلعهما وغسل القدمين. قال المصنف
عن ابن المنذر: والذي اختاره أن المسح أفضل. وقال النووي: صرح أصحابنا: بأن الغسل
أفضل، بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام.
وعن
عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه قالَ: جَعَل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم ثلاثَةَ أيّامٍ ولَيَالِيَهُنَّ للمُسَافِرِ، ويَوْماً ولَيْلَةً للمُقِيم
ــــ يعْني في المسْح على الخُفَّيْنِ ــــ أخرجه مسلمٌ.
(وعن
علي عليه السلام قال: جعل رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم ثلاثة أيام
وليَاليَهُنَّ للمُسافر ويوماً للمُقيم يعني في المسح على الخفين) هذا مدرج من
كلام علي، أو من غيره من الرواة (أخرجه مسلم) ، وكذلك أخرجه أبو داود، والترمذي،
وابن حبان.
والحديث
دليل على توقيت المسح على الخفين للمسافر، كما سلف في الحديث قبله، ودليل على
مشروعية المسح للمقيم أيضاً، وعلى تقدير زمان إباحته بيوم وليلة للمقيم. وإنما زاد
في المدة للمسافر؛ لأنه أحق بالرخصة من المقيم؛ لمشقة السفر.
وعن
ثَوْبَانَ رضي الله عنه قالَ: بَعَثَ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
سَرِيَّةً، فأمَرهُمْ أنْ يَمسَحُوا على الْعَصَائِبِ ــــ يعني العَمَائِمِ ــــ
والتّساخِين يعْني الخِفَاف. روَاهُ أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكِمُ.
(وعن
ثوبان) بفتح المثلثة تثنية ثوب، وهو أبو عبد الله، أو أبو عبد الرحمن. قال ابن عبد
البر: والأول أصح. ابن بجدد بضم الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى.
وقيل: ابن جحدر بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة فدال مهملة فراء، وهو من أهل
السراة موضع بين مكة والمدينة، وقيل: من حمير أصابه سبي، فشراه رسول الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم فأعتقه، ولم يزل ملازماً لرسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم سفراً وحضراً، إلى أن توفي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فنزل الشام، ثم
انتقل إلى حمص، فتوفي بها سنة أربع وخمسين.
(قال:
بعث رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم سرية، فأمرهُم أنْ يَمْسَحُوا على
العَصَائب، يعني العَمائم) سميت عصابة لأنه يعصب بها الرأس (والتساخين) بفتح
المثناة بعدها سين مهملة وبعد الألف خاء معجمة فمثناة تحتية فنون جمع تسخان. قال
في القاموس: التساخين: المراجل الخفاف، وفسرها الراوي بقوله: (يعني الخفاف) جمع
خف. والظاهر أنه وما قبله في قوله: يعني العمائم مدرج في الحديث من كلام الراوي
(رواه أحمد، وأبو داود، وصححه الحاكم).
ظاهر
الحديث: أنه يجوز المسح على العمائم كالمسح على الخفين، وهل يشترط فيها الطهارة
للرأس، والتوقيت كالخفين؟ لم نجد فيه كلاماً للعلماء، ثم رأيت بعد ذلك في حواشي
القاضي عبد الرحمن على بلوغ المرام: أنه يشترط في جواز المسح على العمائم أن يعتم
الماسح بعد كمال الطهارة، كما يفعل الماسح على الخف. وقال: وذهب إلى المسح على
العمائم بعض العلماء، ولم يذكر لما ادعاه دليلاً. وظاهره أيضاً أنه لا يشترط للمسح
عليها عذر، وأنه يجزىء مسحها، وإن لم يمس الرأس ماء أصلاً.
وقال
ابن القيم: إنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسح على العمامة فقط، ومسح على
الناصية، وكمل على العمامة، وقيل: لا يكون ذلك إلا للعذر؛ لأن في الحديث عند أبي
داود: "أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم بعث سرية فأصابهم البرد. فلما قدموا
على رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، أمرهم أن يمسحوا على العصائب
والتساخين"، فيحمل ذلك على العذر، وفي هذا الحمل بعد، وإن جنح إلى القول به
في الشرح؛ لأنه قد ثبت المسح على الخفين، والعمامة من غير عذر في غير هذا.
وعن
عُمَرَ رضي الله عنه ــــ مَوْقُوفاً ــــ وعن أنسٍ ــــ مَرْفوعاً ــــ:
"إذا تَوَضَّأَ أحَدُكمْ فلبس خُفّيْهِ فَلْيَمْسَحْ عليْهِمَا، ولْيُصَلِّ
فِيهِمَا، ولا يَخْلَعْهُمَا إنْ شاء إلا مِنَ الجَنَابَةِ" أخرجه الدارقطني
والحاكم وصححه.
(وعن
عمر موقوفاً) الموقوف: هو ما كان من كلام الصحابي، ولم ينسبه إلى النبي صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم (وعن أنس مرفوعاً) إليه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم (إذا توضأ
أحدكم فلبس خُفّيْه فلْيَمْسَحْ عليهما) تقييد اللبس، والمسح ببعد الوضوء: دليل:
على أنه أريد بطاهرتين في حديث المغيرة، وما في معناه: الطهارة المحققة من الحدث
الأصغر (وليصل فيهما ولا يخلعها إن شاء) قيدهما بالمشيئة: دفعاً لما يفيده ظاهر
الأمر من الوجوب، وظاهر النهي من التحريم (إلا من جنابة) فقد عرفت أنه يجب خلعهما
(أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه).
والحديث
قد أفاد شرطية الطهارة، وأطلقه عن التوقيت، فهو مقيد به، كما يفيده حديث صفوان،
وحديث علي عليه السلام.
وعن
أبي بَكْرَةَ رضي الله عنه عن النّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنّهُ رَخّص
لَلْمُسَافِرِ ثَلاثَةَ أيَامٍ ولَيَاليَهُنَّ، وللمُقيمِ يَوْماً ولَيْلَةً، إذا
تَطَهّرَ فَلَبِسَ خُفّيْهِ: أنّ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا. أخرجه الدارقطنيُّ وصححهُ
ابنُ خُزَيمَةَ.
(وعن
أبي بكرة) بفتح الموحدة وسكون الكاف وراء، اسمه نفيع بضم النون وفتح الفاء وسكون
المثناة التحتية اخره عين مهملة، ابن مسروح، وقيل: ابن الحارث، وكان أبو بكرة
يقول: إنه مولى رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، ويأبى أن ينتسب. وكان نزل
من حصن الطائف عند حصاره صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم له في جماعة من غلمان أهل
الطائف، وأسلم وأعتقه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، وكان من فضلاء الصحابة، قال
ابن عبد البر: كان مثل النضر بن عبادة، مات بالبصرة سنة إحدى، أو اثنتين وخمسين
وكان أولاده أشرافاً بالبصرة بالعلم والولايات، وله عقب كثير:
(عن
النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنّه رخّص للمُسافر ثلاثةَ أيّام
ولَيَاليَهُنّ) أي في المسح على الخفين (وللمُقيم يَوْماً ولَيْلَةً إذا تَطَهّرَ)
أي كل من المقيم والمسافر إذا تطهر من الحدث الأصغر (فَلَبِس خُفّيْه) ليس المراد
من الفاء التعقيب، بل مجرد العطف؛ لأنه معلوم أنه ليس شرطاً في المسح (أن يمسح
عليهما. أخرجه الدارقطني، وصححه ابن خزيمة) ، وصححه الخطابي أيضاً، ونقل البيهقي:
أن الشافعي صححه، وأخرجه ابن حبان، وابن الجارود، وابن أبي شيبة، والبيهقي،
والترمذي في العلل.
والحديث
مثل حديث علي عليه السلام في إفادة مقدار المدة للمسافر والمقيم. ومثل حديث عمر
وأنس في شرطية الطهارة، وفيه إبانة أن المسح رخصة لتسمية الصحابي له بذلك.
وعنْ
أُبيِّ بن عِمَارَةَ رضيَ الله عنهُ، أنّهُ قالَ: يا رَسُولَ الله أَمْسَحُ على
الْخُفّيْنِ؟ قال: "نَعَمْ" قَالَ: يوماً؟ قال: "نَعَمْ"
قَال: ويَوْمَيْنِ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قالَ: وَثلاثَةَ أيّامٍ؟ قالَ:
"نعم وما شِئْتَ"، أخْرَجَهُ أبو داود، وقالَ: لَيْس بالقَويِّ.
(وعن
أبيِّ) بضم الهمزة وتشديد المثناة التحتية (ابن عمارة) بكسر العين المهملة، وهو
المشهور وقد تضم. قال المصنف في التقريب: مدني سكن مصر، له صحبة، في إسناد حديثه
اضطراب، يريد هذا الحديث، ومثله قال ابن عبد البر في الاستيعاب: (أنه قال: يا رسول
الله أمْسَحُ عَلى الخُفّيْن؟ قال: نعم، قال: يوماً؟ قال: نعم، قال: ويومين قال:
نعم، قال: وثلاثة أيام؟ قال: نعم، وما شئت. أخرجه أبو داود وقال: ليس بالقوي).
قال
الحافظ المنذري في مختصر السنن: وبمعناه: أي بمعنى ما قال أبو داود قال البخاري.
وقال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون. وقال الدارقطني: هذا إسناد لا يثبت اهـ.
وقال
ابن حبان: لست أعتمد على إسناد خبره. وقال ابن عبد البر: لا يثبت، وليس له إسناد
قائم، وبالغ ابن الجوزي، فعدّه في الموضوعات.
وهو
دليل على عدم توقيت المسح في حضر ولا سفر، وهو مروي عن مالك، وقديم قولي الشافعي،
ولكن الحديث لا يقاوم مفاهيم الأحاديث التي سلفت، ولا يدانيها، ولو ثبت لكان
إطلاقه مقيداً بتلك الأحاديث، كما يقيد بشرطية الطهارة التي أفادتها.
هذا
وأحاديث باب المسح تسعة وعدَّها في الشرح ثمانية ولا وجه له.
باب
نواقض الوضوء
النواقض:
جمع ناقض، والنقض في الأصل: حلّ المبرم، ثم استعمل في إبطال الوضوء بما عيّنه
الشارع مبطلاً مجازاً، ثم صار حقيقة عرفية. وناقض الوضوء ناقض للتيمم؛ فإنه بدل
عنه.
عن
أنس بن مَالكٍ قال: "كانَ أصْحَابُ رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم
على عَهْدِهِ يَنْتَظرُونَ الْعِشَاءَ حتى تَخْفِقَ رُؤُوسُهُمْ، ثُمَّ يُصَلُّونَ
ولا يَتَوَضَّأونَ". أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصْلهُ في مُسْلم.
(عن
أنس بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على عَهْدِه
ينتظرون العشاء حتى تخْفقَ) من باب ضرب يضرب: أي: تميل (رُؤوسُهُمْ) أي من النوم
(ثم يُصَلُّونَ ولا يَتَوَضأونَ. أخرجه أبو داود، وصححه الدارقطني، وأصله في مسلم)
وأخرجه الترمذي، وفيه "يوقظون للصلاة"، وفيه "حتى إني لأسمع لأحدهم
غطيطاً، ثم يقومون فيصلون ولا يتوضأون". وحمله جماعة من العلماء على نوم
الجالس، ودفع هذا التأويل: بأن في رواية عن أنس: "يضعون جنوبهم" رواها
يحيى القطان.
قال
ابن دقيق العيد: يحمل على النوم الخفيف.
وردّ:
بأنه لا يناسبه ذكر الغطيط، والإيقاظ؛ فإنهما لا يكونان إلا في نوم مستغرق.
وإذا
عرفت هذا فالأحاديث قد اشتملت على خفقة الرأس، وعلى الغطيط، وعلى الإيقاظ، وعلى
وضع الجنوب، وكلها وصفت بأنهم كانوا لا يتوضأون من ذلك، فاختلف العلماء في ذلك على
أقوال ثمانية:
الأول:
أنّ النوم ناقض مطلقاً على كل حال، بدليل إطلاقه في حديث صفوان بن عسال الذي سلف
في مسح الخفين، وفيه: من بول، أو غائط، أو نوم.
قالوا:
فجعل مطلق النوم كالغائط، والبول في النقض، وحديث أنس ــــ بأي عبارة روي ــــ ليس
في بيان أنه قرّرهم رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم على ذلك، ولا راهم، فهو
فعل صحابي لا يدري كيف وقع، والحجة إنما هي في أفعاله، وأقواله، وتقريراته صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
القول
الثاني: أنه لا ينقض مطلقاً؛ لما سلف من حديث أنس، وحكاية نوم الصحابة على تلك
الصفات، ولو كان ناقضاً لما أقرّهم الله عليه، وأوحى إلى رسوله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم في ذلك، كما أوحي إليه في شأن نجاسة نعله، وبالأولى صحة صلاة من
خلفه، ولكنه يردّ عليهم بحديث صفوان بن عسال.
القول
الثالث: أن النوم ناقض كلّه، إنما يعفى عن خفقتين ولو توالتا، وعن الخفقات
المتفرقات، وهو مذهب الهادوية، والخفقة: هي ميلان الرأس من النعاس، وحدّ الخفقة أن
لا يستقر رأسه من الميل حتى يستيقظ، ومَنْ لم يمل رأسه عفي له عن قدر خفقة، وهي
ميل الرأس فقط حتى يصل
ذقنه
صدره، قياساً على نوم الخفقة، ويحملون أحاديث أنس على النعاس الذي لا يزول معه
التمييز. ولا يخفى بعده.
القول
الرابع: أنّ النوم ليس بناقض بنفسه بل هو مظنة للنقض لا غير، فإذا نام جالساً
ممكناً مقعدته من الأرض لم ينتقض، وإلا انتقض، وهو مذهب الشافعي، واستدل بحديث علي
عليه السلام: "العين وكاء السَّه فمن نام فليتوضأ" حسنه الترمذي، إلا أن
فيه مَنْ لا تقوم به حجة، وهو بقية بن الوليد، وقد عنعنه، وحمل أحاديث أنس على من نام
ممكناً مقعدته، جمعاً بين الأحاديث، وقيّد حديث صفوان بحديث علي عليه السلام هذا.
الخامس:
أنه إذا نام على هيئة من هيئات المصلي راكعاً، أو ساجداً، أو قائماً، فإنه لا
ينتقض وضوؤه سواء كان في الصلاة، أو خارجها، فإن نام مضجعاً، أو على قفاه نقض،
واستدل له بحديث: "إذا نام العبد في سجوده باهى الله به الملائكة. يقول: عبدي
روحه عندي وجسده ساجد بين يدي" رواه البيهقي وغيره، وقد ضعف.
قالوا:
فسماه ساجداً وهو نائم، ولا سجود إلا بطهارة.
وأجيب:
بأنه سماه باعتبار أول أمره، أو باعتبار هيئته.
السادس:
أنه ينتقض إلا نوم الراكع والساجد؛ للحديث الذي سبق، وإن كان خاصاً بالسجود، فقد
قاس عليه الركوع، كما قاس الذي قبله سائر هيئات المصلى.
السابع:
أنه لا ينقض النوم في الصلاة على أي حال، وينقض خارجها، وحجته الحديث المذكور،
لأنه حجة هذه الأقوال الثلاثة.
الثامن:
أن كثير النوم ينقض على كل حال، ولا ينقض قليله، وهؤلاء يقولون: إن النوم ليس
بناقض بنفسه، بل مظنة النقض، والكثير مظنة، بخلاف القليل، وحملوا أحاديث أنس على
القليل، إلا أنهم لم يذكروا قدر القليل، ولا الكثير حتى يعلم كلامهم بحقيقته، وهل
هو داخل تحت أحد الأقوال، أم لا؟.
فهذه
أقوال العلماء في النوم اختلفت أنظارهم فيه؛ لاختلاف الأحاديث التي ذكرناها. وفي
الباب أحاديث لا تخلو عن قدح أعرضنا عنها.
والأقرب
القول: بأنّ النوم ناقض لحديث صفوان، وقد عرفت أنه صححه ابن خزيمة، والترمذي،
والخطابي، ولكن لفظ النوم في حديثه مطلق ودلالة الاقتران ضعيفة، فلا يقال: قد قرن
بالبول والغائط، وهما ناقضان على كل حال. ولما كان مطلق ورود حديث أنس بنوم
الصحابة، وأنهم كانوا لا يتوضأون ولو غطوا غطيطاً، وبأنهم كانوا يضعون جنوبهم،
وبأنهم كانوا يوقظون، والأصل جلالة قدرهم، وأنهم لا يجهلون ما ينقض الوضوء، سيما
وقد حكاه أنس عن الصحابة مطلقاً، ومعلوم أن فيهم العلماء العارفون بأمور الدين
خصوصاً الصلاة التي هي أعظم أركان الإسلام، ولاسيما الذين كانوا منهم ينتظرون
الصلاة معه صلى الله عليه واله وسلم، فإنهم أعيان الصحابة، وإذا كانوا كذلك فيقيد
مطلق حديث صفوان بالنوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك، ويؤول ما ذكره أنس من
الغطيط ووضع الجنوب والإيقاظ بعدم الاستغراق، فقد يغطّ من هو في مبادىء نومه قبل
استغراقه. ووضع الجَنْب لا يستلزم الاستغراق، فقد كان صلى الله عليه واله وسلم يضع
جنبه بعد ركعتي الفجر ولا ينام، فإنه كان يقوم لصلاة الفجر بعد وضع جنبه.
وإن
كان قيل: إنه من خصائصه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه لا ينقض نومه وضوءه،
فعدم ملازمة النوم لوضع الجنب معلومة، والإيقاظ قد يكون لمن هو في مبادىء النوم،
فينبه، لئلا يستغرقه النوم.
هذا
وقد ألحق بالنوم الإغماء، والجنون، والسكر بأي مسكر، بجامع زوال العقل. وذكر في
الشرح أنهم اتفقوا على أن هذه الأمور ناقضة، فإن صح كان الدليل الإجماع.
وعن
عائشة رضي الله عَنْهَا قالتْ: جاءَتْ فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيش إلى النّبي صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فقَالَتْ: يا رسولَ الله، إنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فلا
أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ قالَ: "لا، إنّمَا ذلِكَ عِرْقٌ ولَيْسَ
بحَيْضٍ، فإذا أَقْبَلَتْ
حَيْضَتُكِ
فَدَعِي الصَّلاةَ، وإذا أَدْبَرَتْ فاغْسِلي عَنْكِ الدَّمَ ثمَّ صَلِّي"
متفق عليه.
وللبخاريِّ:
"ثمَّ تَوَضَّأي لِكُلِّ صلاةٍ" وأشار مُسْلمٌ إلى أنهُ حَذَفَها
عَمْداً.
(وعن
عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنتُ أبي حُبَيْش) حبيش بضم الحاء المهملة
وفتح الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية فشين معجمة. وفاطمة قرشية أسدية، وهي
زوج عبد الله بن جحش (إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم فقالت: يا رسول الله
إني امرأة أُسْتَحاض) من الاستحاضة وهي: جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه
(فلا أطْهُرُ أفأدعُ الصلاة؟ قال: لا إنما ذلك) بكسر الكاف خطاب للمؤنث (عرق) بكسر
العين المهملة وسكون الراء فقاف، وفي فتح الباري: أن هذا العرق يسمى العاذل بعين
مهملة وذال معجمة، ويقال: عاذر: بالراء بدلاً عن اللام، كما في القاموس (وليس
بحيض) فإن الحيض يخرج من قعر رحم المرأة، فهو إخبار باختلاف المخرجين، وهو رد
لقولها: لا أطهر؛ لأنها اعتقدت أن طهارة الحائض لا تعرف إلا بانقطاع الدم، فكنّت
بعدم الطهر عن اتصاله، وكانت قد علمت: أن الحائض لا تصلي، فظنّت أنّ ذلك الحكم
مقترن بجريان الدم، فأبان لها صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أنه ليس بحيض، وأنها
طاهرة يلزمها الصلاة (فإذا أقبَلَتْ حَيْضَتُك) بفتح الحاء ويجوز كسرها، والمراد
بالإقبال: ابتداء دم الحيض (فدعي الصلاة) يتضمّن: نهي الحائض عن الصلاة، وتحريم
ذلك عليها، وفساد صلاتها، وهو إجماع (وإذا أدْبَرَتْ) هو ابتداء انقطاعها (فاغْسلي
عنك الدمَ) أي: واغتسلي، وهو مستفاد من أدلة أخرى (ثم صلي. متفق عليه).
الحديث
دليل على وقوع الاستحاضة، وعلى أنّ لها حكماً يخالف حكم الحيض، وقد بيّنه صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم أكمل بيان، فإنه أفتاها بأنها لا تدع الصلاة مع جريان الدم،
وبأنها تنتظر وقت إقبال حيضها، فتترك الصلاة فيها، وإذا أدبرت غسلت الدم، واغتسلت
كما ورد في بعض طرق البخاري: "واغتسلي". وفي بعضها كرواية المصنف هنا:
الاقتصار على غسل الدم.
والحاصل:
أنه قد ذكر الأمران في الأحاديث الصحيحة غسل الدم، والاغتسال. وإنما بعض الرواة
اقتصر على أحد الأمرين، والاخر على الاخر. ثم أمرها بالصلاة بعد ذلك. نعم، وإنما
بقي الكلام في معرفتها لإقبال الحيض مع استمرار الدم بماذا يكون؟ فإنه قد أعلم
الشارع المستحاضة
بأحكام
إقبال الحيضة، وإدبارها، فدل على أنها تميز ذلك بعلامة. وللعلماء في ذلك قولان:
أحدهما:
أنها تميّز ذلك بالرجوع إلى عادتها، فإقبالها وجود الدم في أول أيام العادة،
وإدبارها انقضاء أيام العادة، وورد الردّ إلى أيام العادة في حديث فاطمة في بعض
الروايات بلفظ: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها"، وسيأتي
في باب الحيض تحقيق الكلام على
ذلك.
الثاني:
ترجع إلى صفة الدم، كما يأتي في حديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش هذه بلفظ:
"إن دم الحيض أسود يعرف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الاخر
فتوضئي، وصلي، ويأتي في باب الحيض إن شاء الله تعالى، فيكون إقبال الحيض إقبال
الصفة، وإدباره إدبارها، ويأتي أيضاً الأمر بالرد إلى عادة النساء، ويأتي تحقيق
ذلك جميعاً، ويأتي بيان اختلاف العلماء، وأن كلا ذهب إلى القول بالعمل بعلامة من
العلامات.
(وللبخاري)
أي: من حديث عائشة هذا زيادة: (ثم توضئي لكُلّ صلاة، وأشار مسلم إلى أنه حذفها
عمداً) فإنه قال في صحيحه بعد سياق الحديث: وفي حديث حماد حرف تركنا ذكره. قال
البيهقي: هو قوله: "توضئي"؛ لأنها زيادة غير محفوظة، وأنه تفرد بها بعض
الرواة عن غيره ممن روى الحديث. وقد قرر المصنف في الفتح: أنها ثابتة من طرق ينتفي
معها تفرد من قاله مسلم.
واعلم
أن المصنف ساق حديث المستحاضة في باب النواقض، وليس المناسب للباب إلا هذه
الزيادة، لا أصل الحديث، فإنه من أحكام باب الاستحاضة والحيض، وسيعيده هنالك، فهذه
الزيادة هي الحجة على أنّ دم الاستحاضة حدث، من جملة الأحداث، ناقض للوضوء، ولهذا
أمر الشارع بالوضوء منه لكل صلاة؛ لأنه إنما رفع الوضوء حكمه لأجل الصلاة، فإذا
فرغت من الصلاة نقض وضوؤها، وهذا قول الجمهور: أنها تتوضأ لكل صلاة.
وذهبت
الهادوية والحنفية: إلى أنها تتوضأ لوقت كل صلاة، وأن الوضوء متعلق بالوقت، وأنها
تصلي به الفريضة الحاضرة، وما شاءت من النوافل، وتجمع بين الفريضتين على وجه
الجواز عند من: يجيز ذلك، أو لعذر، وقالوا: الحديث فيه مضاف مقدر وهو: لوقت كل
صلاة فهو من مجاز الحذف؛ ولكنه لا بدّ من قرينة توجب التقدير؛ وقد تكلف في الشرح:
إلى ذكر ما لعله يقال: إنه قرينة للحذف، وضعفه.
وذهبت
المالكية: إلى أنه يستحب الوضوء ولا يجب إلاّ لحدث اخر.
وسيأتي
تحقيق ما في ذلك في حديث حمنة بنت جحش في باب الحيض إن شاء الله تعالى، وتأتي
أحكام المستحاضة التي تجوز لها، وتفارق بها الحائض هنالك فهو محل الكلام عليها،
وفي الشرح سرده هناك، وأما هنا فما ذكر حديثهما إلا باعتبار نقض الاستحاضة للوضوء.
وعن
عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنهُ قال: كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فأمَرْتُ
المِقْدَادَ أنْ يَسْأَلَ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فسَأَلَهُ،
فقَالَ: "فيهِ الْوُضُوءُ" متفقٌ عليهِ، واللفظ للبخاري.
(وعن
علي عليه السلام قال: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً) بزنة ضراب صيغة مبالغة من المذي
بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، وفيه لغات، وهو ماء أبيض لزج رقيق
يخرج عند الملاعبة، أو تذكر الجماع، أو إرادته، يقال: مذى زيد يمذي، مثل: مضى
يمضي، وأمذى يمذي، مثل:
أعطى
يعطي (فأَمَرْتُ المقْدَادَ) وهو ابن الأسود الكندي (أنْ يسألَ رسولَ الله صَلّى
الله عَلَيْهِ وَسَلّم) أي: عما يجب على مَنْ أمذى، فسأله (فقال: فيه الوُضُوءُ.
متفق عليه واللفظ للبخاري).
وفي
بعض ألفاظه عند البخاري بعد هذا: "فاستحييت أن أسأل رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم.
"وفي
لفظ: "لمكان ابنته مني" وفي لفظ لمسلم: "لمكان فاطمة".
ووقع
عند أبي داود، والنسائي، وابن خزيمة عن علي عليه السلام بلفظ: "كنت رجلاً
مذاءً فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري". وزاد في لفظ للبخاري فقال:
"توضأ واغسل ذكرك"، وفي مسلم: "اغسل ذكرك وتوضأ"، وقد وقع
اختلاف في السائل هل هو المقداد كما في هذه الرواية، أو عمار كما في رواية أخرى؟ وفي رواية
أخرى: أن علياً رضي الله عنه هو السائل.
وجمع
ابن حبان بين ذلك: بأن علياً عليه السلام أمر المقداد أن يسأل، ثم سأل بنفسه، إلا
أنه تعقب: بأن قوله: فاستحييت أن أسأل لمكان ابنته مني: دالّ على أنه رضي الله عنه
لم يباشر السؤال، فنسبة السؤال إليه في رواية مَنْ قال: إنّ علياً سأل: مجاز؛
لكونه الامر بالسؤال.
والحديث
دليل على أنّ المذي ينقض الوضوء، ولأجله ذكره المصنف في هذا الباب، ودليل على أنه
لا يوجب غسلاً، وهو إجماع، ورواية "توضأ واغسل ذكرك" لا تقتضي تقديم
الوضوء؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، ولأن لفظ رواية مسلم تبين المراد، وأما إطلاق
لفظ (ذكرك) فهو ظاهر في غسل الذكر كله، وليس كذلك، إذ الواجب غسل محل الخارج،
وإنما هو من إطلاق اسم الكل على البعض، والقرينة ما علم من قواعد الشرع.
وذهب
البعض إلى أنه يغسله كله عملاً بلفظ الحديث، وأيده رواية أبي داود: "يغسل
ذكره وأنثييه ويتوضأ"، وعنده أيضاً: "فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ
للصلاة" إلا أنّ رواية غسل الأنثيين قد طعن فيها، وأوضحناه في حواشي ضوء
النهار، وذلك أنها من رواية عروة، عن علي، وعروة لم يسمع من علي، إلا أنه رواه أبو
عوانة في صحيحه من طريق عبيدة، عن علي بالزيادة. قال المصنف في التلخيص: وإسناده
لا مطعن فيه، فمع صحتها فلا عذر عن القول بها.
وقيل:
الحكمة فيه: أنه إذا غسله كله تقلص فبطل خروج المذي، واستدل بالحديث عن نجاسة المذي.
وعن
عائشة: أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبّل بَعْضَ نِسائِهِ، ثمَّ
خَرَجَ إلى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ أخرجهُ أحمد، وضعّفهُ البُخاريُّ.
وعن
عائشة: أنَّ النَّبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قَبّل بَعْضَ نِسائِهِ، ثمَّ
خَرَجَ إلى الصَّلاةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأ. أخرجهُ أحمد، وضعّفهُ البُخاريُّ.
وأخرجه
أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه. قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يضعف
هذا الحديث، وأبو داود أخرجه من طريق إبراهيم التيمي عن عائشة، ولم يسمع منها
شيئاً، فهو مرسل. وقال النسائي: ليس في هذا الباب حديث أحسن منه، ولكنه مرسل. قال
المصنف: روى من عشرة أوجه عن عائشة، أوردها البيهقي في الخلافيات وضعّفها. وقال
ابن حزم: لا يصح في هذا الباب شيء، وإن صح فهو محمول على ما كان عليه الأمر قبل
نزول الوضوء من اللمس.
إذا
عرفت هذا، فالحديث دليل على أن لمس المرأة، وتقبيلها لا ينقض الوضوء، وهذا هو
الأصل، والحديث مقرر للأصل، وعليه الهادوية جميعاً، ومن الصحابة علي عليه السلام.
وذهبت
الشافعية: إلى أنّ لمس من لا يحرم نكاحها ناقض للوضوء مستدلين بقوله تعالى:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ
اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ
سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً}. فلزم الوضوء من اللمس. قالوا:
واللمس حقيقة في اليد، ويؤيد بقاءه على معناه قراءة: "أو لمستم النساء".
فإنها ظاهرة في مجرد لمس الرجل من دون أن يكون من المرأة فعل، وهذا يحقّق بقاء
اللفظ على معناه الحقيقي، فقراءة: "أو لامستم النساء" كذلك، إذ الأصل
اتفاق معنى القراءتين.
وأجيب
عن ذلك: بصرف النظر عن معناه الحقيقي للقرينة فيحمل على المجاز، وهو هنا: حمل
الملامسة على الجماع، واللمس كذلك، والقرينة حديث عائشة المذكور، وهو وإن قدح فيه
بما سمعت، فطرقه يقوي بعضها بعضاً. وحديث عائشة في البخاري: "في أنها كانت
تعترض في قبلته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، فإذا قام يصلي غمزها فقبضت رجليها
ــــ أي عند سجوده ــــ وإذا قام بسطتهما"، فإنه يؤيد حديث الكتاب المذكور،
ويؤيد بقاء الأصل، ويدل على أنه ليس اللمس بناقض. وأما اعتذار المصنف في فتح
الباري عن حديثها هذا: بأنه يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به، فإنه بعيد مخالف
للظاهر.
وقد
فسر علي عليه السلام الملامسة بالجماع. وفسرها حبر الأمة ابن عباس بذلك، وهو
المدعو له بأن يعلمه الله التأويل، فأخرج عنه عبد بن حميد أنه فسر الملامسة بعد أن
وضع أصبعيه في أذنيه: ألا وهو النيك، وأخرج عنه الطستي أنه سأله نافع بن الأزرق عن
الملامسة، ففسرها بالجماع، مع أن تركيب الاية الشريفة وأسلوبها يقتضي أن المراد
بالملامسة الجماع؛ فإنه تعالى عدّ من مقتضيات التيمم المجيء من الغائط تنبيهاً على
الحدث الأصغر، وعدّ الملامسة تنبيهاً على الحدث الأكبر، وهو مقابل لقوله تعالى في
الأمر بالغسل بالماء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ
جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ
أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ
مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـ كِن يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. ولو
حملت الملامسة على اللمس الناقض للوضوء لفات التنبيه على أن التراب يقوم مقام
الماء في رفعه للحدث الأكبر، وخالف صدر الاية.
وللحنفية
تفاصيل لا ينهض عليها دليل.
وعن
أبي هرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ قالَ: قَالَ رسولُ الله: "إذا وَجَدَ
أَحَدُكُمْ في بطنِهِ شيئاً، فأشكل عليه: أَخَرَجَ مِنْهُ شيءٌ، أمْ لا؟ فَلا
يخْرُجَنَّ مِنَ المَسْجِدِ حتَّى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجِدَ ريحاً" أخرجه
مُسْلم.
(وعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: إذا وجد
أحدكم في بطنه شيئاً، فأشكلَ عليْهِ أخرَجَ منهُ شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد)
إذا كان فيه لإعادة الوضوء (حتى يسمع صوتاً) للخارج (أو يجد ريحاً) له (أخرجه
مسلم) وليس السمع، أو وجدان الريح شرطاً في ذلك، بل المراد حصول اليقين.
وهذا
الحديث الجليل أصل من أصول الإسلام، وقاعدة جليلة من قواعد الفقه، وهو أنه دل على
أنّ الأشياء يحكم ببقائها على أصولها، حتى يتيقن خلاف ذلك. وأنه لا أثر للشك الطارىء
عقبها، فمن حصل له ظن، أو شك بأنه أحدث وهو على يقين من طهارته، لم يضرّه ذلك حتى
يحصل له اليقين، كما أفاده قوله: "حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً"، فإنه
علّقه بحصول ما يحسّه، وذكرهما تمثيل، وإلا فكذلك سائر النواقض كالمذي والودي.
ويأتي
حديث ابن عباس: "إن الشيطان يأتي أحدكم، فينفخ في مقعدته، فيخيل إليه أنه
أحدث، ولم يحدث، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً" والحديث عام لمن
كان في الصلاة، أو خارجها، وهو قول الجماهير. وللمالكية تفاصيل وفروق بين مَنْ كان
داخل الصلاة، أو خارجها، لا
ينتهض
عليها دليل.
وعن
طَلْقِ بن عليٍّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَجُلٌ مَسَسْتُ ذَكَرِي، أَوْ قَال:
الرَّجُلُ يَمَسُّ ذَكَرَهُ في الصلاة، أَعَلَيْهِ الْوُضُوءُ؟
فَقَالَ
النّبيُّ صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "لا، إنّما هُوَ بَضْعَةٌ مِنْك"
أخرجهُ الخمسَةُ، وصحّحهُ ابنُ حِبّانَ، وقالَ ابنُ المَديني: هوَ أحْسَنُ مِنْ
حديث بُسْرَة.
(وعن
طلق) بفتح الطاء وسكون اللام (بن عليِّ) اليمامي الحنفي. قال ابن عبدالبر: إنه من
أهل اليمامة (قال: قال رجل: مسست ذكري، أو قال: الرجل يمس ذكره في الصلاة أعليه
وضوء؟ فقال النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: لا) ، أي: لا وضوء عليه (إنما هو)
أي: الذكر (بَضْعَةٌ) بفتح الموحدة وسكون الضاد المعجمة (منْكَ) أي: كاليد والرجل
ونحوهما، وقد علم أنه لا وضوء من مس البضعة منه (أخرجه الخمسة وصححه ابن حبان).
(وقال
ابن المديني) بفتح الميم فدال مهملة فمثناة تحتية فنون نسبة إلى جده، وإلا فهو علي
بن عبد الله المديني. قال الذهبي: هو حافظ العصر وقدوة أهل هذا الشأن، أبو الحسن
علي بن عبد الله صاحب التصانيف، ولد سنة إحدى وستين ومائة. من تلاميذه البخاري،
وأبو داود، وقال
ابن
مهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم.
قال النسائي: كأن علي بن المديني خلق لهذا الشأن قال العلامة محيي الدين النووي:
لابن المديني نحو مائة مصنف: (هو أحسن من حديث بُسْرة) بضم الموحدة وسكون السين
المهملة فراء، ويأتي
حديثها
قريباً، وهذا الحديث رواه، أحمد والدارقطني. وقال الطحاوي: إسناده مستقيم غير
مضطرب؛ وصححه الطبراني، وابن حزم، وضعّفه الشافعي، وأبو حاتم، وأبو زرعة،
والدارقطني، والبيهقي، وابن الجوزي.
والحديث
دليل على ما هو الأصل من عدم نقض مس الذكر للوضوء، وهو مروي عن علي عليه السلام،
وعن الهادوية، والحنفية.
وذهب:
إلى أنّ مسه ينقض الوضوء جماعة من الصحابة، والتابعين، ومن أئمة المذاهب أحمد،
والشافعي مستدلين بقوله.
وعن
بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوانَ رضي الله عنها: أنَّ رسُولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم قالَ: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأ" أخرجه الخَمْسَةُ،
وصَحّحهُ التِّرمِذيُّ وابن حِبّانَ، وقالَ البُخاريُّ: هُوَ أصَحُّ شيءٍ في هذا
الْبَابِ.
(وعن
بسرة) تقدم ضبط لفظها، وهي (بنت صفوان) بن نوفل القرشية الأسدية، كانت من
المبايعات له صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم، روى عنها عبد الله بن عمر، وغيره: (أن
رسول الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: مَنْ مَسَّ ذَكرهُ فليتوضأ. أخرجه
الخمسة، وصححه الترمذي، وابن حبان، وقال البخاري: هو أصح شيء في هذا الباب) ،
وأخرجه أيضاً الشافعي، وأحمد، وابن خزيمة، والحاكم، وابن الجارود. وقال الدارقطني:
صحيح ثابت. وصححه يحيى بن معين، والبيهقي، والحازمي.
والقدح
فيه: بأنه رواه عروة عن مروان، أو عن رجل مجهول: غير صحيح، فقد ثبت: أن عروة سمعه
من بسرة من غير واسطة، كما جزم به ابن خزيمة، وغيره من أئمة الحديث.
وكذلك
القدح فيه: بأن هشام بن عروة الراوي له عن أبيه لم يسمعه من أبيه: غير صحيح؛ فقد
ثبت: أنه سمعه من أبيه، فاندفع القدح وصح الحديث. وبه استدل مَنْ سمعت من الصحابة،
والتابعين، وأحمد، والشافعي: على نقض مس الذكر للوضوء، والمراد مسه من غير حائل؛
لأنه أخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى
فرجه، ليس دونها حجاب ولا ستر، فقد وجب عليه الوضوء" وصححه الحاكم، وابن عبد
البر. قال ابن السكن: هو أجود ما روي في هذا الباب.
وزعمت
الشافعية أن الإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف، وأنه لا نقض إذا مس الذكر بظاهر كفه.
وردّ عليهم المحققون بأن الإفضاء لغة: الوصول: أعمّ من أن يكون بباطن الكف، أو
ظهرها. قال ابن حزم: لا دليل على ما قالوه لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا
قول صاحب، ولا قياس، ولا رأي صحيح.
وأيدت
أحاديث بسرة أحاديث أخر، عن سبعة عشر صحابياً مخرجة في كتب الحديث، ومنهم طلق بن
علي راوي حديث عدم النقض، وتأول مَنْ ذكر حديثه في عدم النقض. بأنه كان في أول
الأمر؛ فإنه قدم في أول الهجرة قبل عمارته صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم مسجده،
فحديثه منسوخ بحديث بسرة؛ فإنها متأخرة في الإسلام.
وأحسن
من القول بالنسخ القول بالترجيح؛ فإن حديث بسرة أرجح؛ لكثرة من صححه من الأئمة،
ولكثرة شواهده؛ ولأن بسرة حدثت به في دار المهاجرين والأنصار، وهم متوافرون، ولم
يدفعه أحد، بل علمنا أن بعضهم صار إليه، وصار إليه عروة عن روايتها، فإنه رجع إلى
قولها، وكان قبل ذلك يدفعه، وكان ابن عمر يحدث به عنها، ولم يزل يتوضأ من مس الذكر
إلى أن مات.
قال
البيهقي: يكفي في ترجيح حديث بسرة على حديث طلق بن علي: أنه لم يخرجه صاحبا
الصحيح، ولم يحتج بأحد من رواته، وقد احتج بجميع رواة حديث بسرة، ثم إن حديث طلق
من رواية قيس بن طلق.
قال
الشافعي: قد سألنا عن قيس بن طلق فلم نجد من يعرفه، فما يكون لنا قبول خبره.
وقال
أبو حاتم، وأبو زرعة: قيس بن طلق ليس فيمن تقوم به حجة، ووهياه.
وأما
مالك، فلما تعارض الحديثان قال بالوضوء من مس الذكر ندباً لا وجوباً.
وعن
عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "من
أصابَهُ قَيءٌ أَوْ رُعَافٌ، أَوْ قَلَسٌ، أَوْ مَذْيٌ فَلْينْصَرِفْ
فَلْيَتَوَضَّأ، ثمَّ ليَبْنِ على صلاتِهِ، وهُوَ في ذلك لا يَتَكَلّمُ".
أَخْرَجَهُ ابن مَاجَهُ، وَضَعّفَهُ أَحْمَدُ وغيرُهُ.
وعن
عائشة رضي الله عنها أنَّ رسولَ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم قال: "مَنْ
أصابَهُ قيءٌ أو رُعافٌ أو قلْسٌ) بفتح القاف وسكون اللام وفتحها وسين مهملة، (أو
مَذْيٌ) أي من أصابه ذلك في صلاته (فلينْصَرفْ) منها (فلْيَتَوَضَّأ، ثم ليبْن على
صلاته وهو في ذلك) أي: في حال انصرافه، ووضوئه (لا يتكلم. أخرجه ابن ماجه وضعفه
أحمد، وغيره") وحاصل ما ضعفوه به: رفعه إلى النبي صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم غلط، والصحيح أنه مرسل. قال أحمد والبيهقي: المرسل الصواب.
فمن
يقول: إنَّ المرسل حجة قال: ينقض ما ذكر فيه.
والنقض
بالقيء مذهب الهادوية، والحنفية، وشرطت الهادوية أن يكون من المعدة؛ إذ لا يسمى
قيئاً إلا ما كان منها، وأن يكون ملء الفم دفعة؛ لورود ما يقيد المطلق هنا، وهو
"قيء ذارع ودسعة ــــ دفعة ــــ تملأ الفم" كما في حديث عمار، وإن كان
قد ضعف.
وعند
زيد بن علي أنه ينقض مطلقاً عملاً بمطلق هذا الحديث، وكأنه لم يثبت عنده حديث عمار.
وذهب
جماعة من أهل البيت، والشافعي، ومالك إلى أن القيء غير ناقض؛ لعدم ثبوت حديث عائشة
هذا مرفوعاً، والأصل عدم النقض، فلا يخرج عنه إلا بدليل قوي.
وأما
الرعاف ففي نقضه الخلاف أيضاً، فمن قال بنقضه فهو عمل بهذا الحديث، ومن قال بعدم
نقضه فإنه عمل بالأصل، ولم يرفع هذا الحديث.
وأما
الدم الخارج من أي موضع من البدن من غير السبيلين، فيأتي الكلام عليه في حديث أنس:
"أنه صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم احتجم، وصلى، ولم يتوضأ".
وأما
القلس وهو ما خرج من الحلق ملء الفم، أو دونه وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء،
فالأكثر على أنه غير ناقض؛ لعدم نهوض الدليل، فلا يخرج من الأصل.
وأما
المذي فتقدم الكلام عليه، وأنه ناقض إجماعاً.
وأما
ما أفاده الحديث من البناء على الصلاة بعد الخروج منها، وإعادة الوضوء حيث لم
يتكلم ففيه خلاف، فروى عن زيد بن علي، والحنفية، ومالك، وقديم قولي الشافعي أنه
يبنى، ولا تفسد صلاته بشرط ألا يفعل مفسداً، كما أشار إليه الحديث بقوله: "لا
يتكلم".
وقالت
الهادوية، و الناصر، و الشافعي في اخر قوليه: إن الحدث يفسد الصلاة؛ لما سيأتي من
حديث طلق بن علي: "إذا فسا أحدكم في الصلاة فلينصرف، وليتوضأ، وليعد
الصلاة" رواه أبو داود ويأتي الكلام عليه.
وعن
جابر بن سَمُرةَ رضي الله عنه أنَّ رجُلاً سألَ النّبيَّ صَلّى الله عَلَيْهِ
وَسَلّم: أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟ قالَ: "إنْ شِئْتَ" قالَ:
أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإبل؟ قالَ: "نَعَمْ" أخرجه مسلمٌ.
(وعن
جابر بن سمرة رضي الله عنه) بفتح السين المهملة وضم الميم فراء، أبو عبد الله،
وأبو خالد، جابر بن سمرة العامري، نزل الكوفة، ومات بها سنة أربع وسبعين، وقيل: ست
وستين: (أن رجلاً سأل النبي صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: أتوضأ من لحوم الغنم؟)
أي: من أكلها (قال
إن
شئْتَ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قالَ: نعَمْ أخرجه مسلم) ، وروى نحوه أبو داود،
والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم: "توضأوا من لحوم الإبل ولا توضأوا من لحوم الغنم".
قال
ابن خزيمة: لم أر خلافاً بين علماء الحديث: أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة
ناقليه.
والحديثان
دليلان على نقض لحوم الإبل للوضوء، وأنَّ مَنْ أكلها انتقض وضوؤه.
وقال
بهذا أحمد،، و إسحاق،، و ابن المنذر،، و ابن خزيمة، واختاره البيهقي، وحكاه عن
أصحاب الحديث مطلقاً. وحكي عن الشافعي أنه قال: إن صح الحديث في لحوم الإبل قلت
به. قال البيهقي: قد صح فيه حديثان حديث جابر، وحديث البراء.
وذهب
إلى خلافة جماعة من الصحابة، والتابعين، والهادوية، ويروى عن الشافعي، وأبي حنيفة.
قالوا: والحديثان إما منسوخان بحديث: "إنه كان اخر الأمرين منه صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّم عدم الوضوء مما مست النار" أخرجه الأربعة، وابن حبان من
حديث جابر.
قال
النووي: دعوى النسخ باطلة؛ لأن هذا الأخير عام وذلك خاص؛ والخاص مقدم على العام.
وكلامه هذا مبني على تقديم الخاص على العام مطلقاً، تقدّم الخاص أو تأخّر، وهي
مسألة خلافية في الأصول بين الأصوليين، أو أن المراد بالوضوء التنظيف، وهو غسل
اليد؛ لأجل الزهومة، كما جاء في الوضوء من اللبن، وأن له دسماً، والوارد في اللبن
التمضمص من شربه. وذهب البعض إلى أنّ الأمر في الوضوء من لحوم الإبل للاستحباب، لا
للإيجاب، وهو خلاف ظاهر الأمر.
أما
لحوم الغنم فلا نقض بأكلها بالاتفاق. كذا قيل، ولكن حكى في شرح السنة: وجوب الوضوء
مما مست النار.
وعن[اث]
عمر بن عبد العزيز[/اث]: أنه كان يتوضأ من أكل السكر.
قلت:
وفي الحديث مأخذ لتجديد الوضوء على الوضوء؛ فإنه حكم بعدم نقض الأكل من لحوم
الغنم، وأجاز له الوضوء، وهو تجديد الوضوء على الوضوء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ غَسّلَ مَيِّتاً فَلْيَغْتَسِلَ. ومَنْ
حَمَلهُ فَلْيَتَوضَأ" أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وحسّنهُ، وقالَ أحمدُ:
لا يَصحُّ في هذا البابِ شيءٌ.